ليس في النصوص الاسلامية ما يدل على حدوث ظواهر غير طبيعية في ليلة القدر، كما ليس في النصوص ما يدل على ان ليلة القدر تتمثل في كائن معين او في جسم معين ،بحيث انها تنزل على بعض المحظوظين في تلك الليلة كما يتوهم بعض عوام الناس .
ليلة القدر (21)
الله سبحانه ربما يكون قد أخفى ليلة القدر بين الليالي كي يتجه الناس الى عبادته في جميع الليالي ،وهذا مثلما اخفى رضاه بين انواع الطاعات كي يتوجه الناس الى جميع الطاعات ،وكما اخفى غضبه بين المعاصي كي يتجنب الناس جميع المعاصي ،وكما اخفى احبائه واوليائه بين عباده كي يحترم كل الناس ،واخفى وقت الموت كي يكون الناس دائما على استعداد له.
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة القدر : إنا انزلناه في ليلة القدر ،وما أدراك ما ليلة القدر ،ليلة القدر خير من الف شهر ،تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ،سلام هي حتى مطلع الفجر" .
هذه السورة المباركة تشير الى عدة حقائق ،ترتبط بليلة القدر وخصائصها وصفاتها وما حصل فيها في الماضي كنزول القرآن وما يحصل فيها عادة في كل سنة كنزول الملائكة والروح لتدبير كل أمر من أمور الناس.
وقبل ان نذكر الحقائق التي تحدثت عنها السورة لا بد من التأكيد على ثلاثة أمور:
الأمر الاول: انه لا شك في ان ليلة القدر هي ليلة من ليالي شهر رمضان وهذا هو مقتضى الجمع بين الايات النازلة بهذا الخصوص ،فانه لو جمعنا بين الاية الاولى من هذه السورة (إنا انزلناه في ليلة القدر ) الدالة على نزول القرآن في ليلة القدر ،والاية 185 من سورة البقرة (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرأن ) الدالة على نزول القرآن في شهر رمضان ، أقول لو جمعنا بين هاتين الايتين ،لاستنتجنا : ان ليلة القدر هي احدى ليالي شهر رمضان ،وان القرآن نزل في شهر رمضان وفي ليلة القدر منه بالذات ،ولكن آية ليلة من ليالي شهر رمضان هي ليلة القدر؟؟.
فهذا الأمر لم يبين في القرآن الكريم فالقرآن لم يعين أية ليلة هي من ليالي الشهر المبارك، فلم يحدد مثلاً انها الليلة التاسعة عشرة او الحادية والعشرون او الثالثة والعشرون وما الى ذلك ،وإنما التعين والتحديد جاء من خلال الروايات المروية عن النبي (ص) وعن ائمة اهل البيت عليهم السلام ،فهي التي عينت لنا اية ليلة هي ليلة القدر من ليالي شهر رمضان ،وقد ذكرت في الروايات تحديدات متعددة لليلة القدر ، ذكر مثلا انها أول ليلة من شهر رمضان ،او الليلة السابعة عشرة او الليلة التاسعة عشرة او الليلة الحادية والعشرون او الثالثة والعشرون او السابعة والعشرون او التاسعة والعشرون، كل هذه التحديات ذكرت في الروايات ،ولكن المشهور في الروايات كثيراً ان ليلة القدر هي في العشر الاواخر من شهر رمضان وفي الليلتين الحادية والعشرين او الثالثة والعشرين.ولذلك فقد ورد في بعض الاحاديث ان النبي (ص): كان يحيي كل الليالي العشر الاخيرة من الشهر المبارك بالعبادة .
وروي عن الإمام الصادق (ع):انها الليلة الحادية والعشرون او الثالثة والعشرون وعندما أصر عليه أحدهم في تعيين واحدة بين الليلتين لم يزد الإمام على ان يقول : ما ايسر ليلتين فيما تطلب ،بمعنى ان الانسان اذا كان يطلب التقرب الى الله فاحياء ليلتين في سبيل الوصول الى هدفه امر سهل وميسور. وهذا في الواقع حثٌ من الإمام على احياء ليلتي الواحد والعشرين والثالثة والعشرين معاً ، وهناك روايات متعددة عن ائمة اهل البيت (ع) تركز على الليلة الثالثة والعشرين بينما روايات اهل السنة تركز على الليلة السابعة والعشرين .
ليلة القدر اذاً محاطة بهالة من الابهام والخفاء وهذا يدعونا الى طرح سؤال عن سبب هذا الابهام والخفاء في تعيين ليلة القدر؟؟.
الاعتقاد السائد ان اختفاء ليلة القدر بين ليالي شهر رمضان يعود الى توجيه الناس الى الاهتمام بجميع هذه الليالي واحياءها جميعا بالعبادة . فالله ربما يكون قد اخفى ليلة القدر بين الليالي كي يتجه الناس الى عبادته في جميع الليالي ،وهذا مثلما اخفى رضاه بين انواع الطاعات كي يتوجه الناس الى جميع الطاعات ،وكما اخفى غضبه بين المعاصي كي يتجنب الناس جميع المعاصي ،وكما اخفى احبائه واوليائه بين عباده كي يحترم كل الناس ،واخفى وقت الموت كي يكون الناس دائما على استعداد له ،فالله قد يكون اخفى ليلة القدر من اجل ان يجتهد الناس في العبادة والتوجه الى الله في كل ليالي شهر رمضان طلباً لليلة القدر وثوابها ، هذا كله فيما يتعلق بالامر الاول وهو تعين ليلة القدر.
الامر الثاني: ان المفهوم من ظاهر ايات سورة القدر ان ليلة القدر ليست خاصة بزمن نزول القرآن وعصر النبي وانها كانت تتكرر في كل سنة في عهد النبي ثم رفعها الله ولم تعد تتكرر بعد ذلك . بل هي تتكرر في كل سنة في شهر رمضان والى ان يرث الله الارض ومن عليها . وهناك روايات عديدة بلغت حد التواتر اكدت حدوث هذه الليلة في كل سنة في شهر رمضان ،ولكن هل كانت هذه الليلة في الامم السابقة ؟؟.
روايات متعددة تصرح ان هذه الليلة من الهبات الالهية على هذه الأمة فقط وانها لم تكن في الأمم السابقة، فقد روي عن النبي (ص) انه قال : ان الله وهب لأمتي ليلة القدر لم يعطيها من كان قبلهم .
الامر الثالث: ان ليلة القدر ترتبط لدى الكثير من المسلمين العاديين بظاهرتين :
الظاهرة الاولى: ارتباط ليلة القدر لدى بعض الناس بظواهر حسية معينة ، فبعض الناس العاديين يتصورون ان من وافاه الحظ او من وفقه الله في هذه الليلة يشاهد ظاهرة حسية خارقة للطبيعة، كإنحناء جدار مثلا او شجرة ،او كرؤية جسم غريب بشكل معين وما الى ذلك .. ولا شك ان هذا التصور هو تصور خاطئ جاء نتيجة التخلف الثقافي والروحي لدى الانسان المسلم ،اذ ليس في النصوص الاسلامية ما يدل على حدوث ظواهر غير طبيعية في ليلة القدر، كما ليس في النصوص ما يدل على ان ليلة القدر تتمثل في كائن معين او في جسم معين ،بحيث انها تنزل على بعض المحظوظين في تلك الليلة كما يتوهم بعض عوام الناس .
الظاهرة الثانية: ارتباط ليلة القدر لدى بعض المسلمين السطحيين بظاهرة المغفرة السريعة والسهلة ،فبعض المسلمين يتصورون انه ليس على الانسان الا ان يصلي ويجتهد في الصلاة ويدعو ويجتهد في الدعاء في هذه الليلة لينال المغفرة على كل ذنوبه الماضية ،وليوفقه الله في سنته القادمة ،هذا بكل بساطة من دون ان يعمل الانسان بطاعة الله في سائر ايامه ومن دون ان يسعى باتجاه تصحيح اعماله ومواقفه وتصرفاته وفق ما يريده الله ويحبه.
إن هذا التصور ايضاً كالتصور السابق هو تصور خاطئ وبعيد عن روح الاسلام وعن اسلوبه في تربية الانسان .فالاسلام دين يؤكد على العمل وعلى السلوك المتوازن العقلاني،الاسلام يؤكد على ان الطريق الوحيد للخلاص وللنجاح والتوفيق والتقدم في جميع المجالات انما هو العمل الصالح والممارسة الحسنة ،فلا يوجد في الاسلام صيغ سحرية لكسب انتصارات سهلة ومغفرة سهلة من دون عمل وسعي باتجاه طاعة الله وتصحيح المواقف والسلوك والاعمال وفق ارادة الله سبحانه وتعالى .
يقول الله تعالى : ( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ،الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم ايكم احسن عملا وهو العزيز الغفور ) الملك /، 201 وروي عن الامام الباقر (ع) : ليس بين الله وبين احد قرابة ،احب العباد الى الله عز وجل واكرمهم عليه اتقاهم واعملهم بطاعته.
ولكن هل هذا يعني ان ليلة القدر كغيرها من الليالي لا تتميز بشيء ولا تختص بفضل معين ؟ بطبيعة الحال ليس الامر كذلك، فهي ليلة دلت النصوص التي لا شك فيها على انها تمتاز عن غيرها من الازمان والليالي بفضل خاص يجعل العمل الصالح فيها افضل منه في سائر الازمان ويجعل العبادة فيها خيراً من عبادة الف شهر، ولكن الذي نريد ان نؤكد عليه هنا : هو ان العمل في ليلة القدر لا يتمتع باي صفة سحرية خارقة تجعل له اثراً مستقلاً عن سلوك الانسان في سائر ايام عمره .
فالانسان الذي يحافظ على الاستقامة هو الذي ينفعه العمل العبادي الخاص في هذه الليلة ،واما الانسان الذي لا يتمتع في عمله وسلوكه العام بأي استقامة ،والذي يستقبل ايامه بعد ليلة القدر بالانحراف الذي كان يمارسه قبلها ، هذا الانسان قد لا تنفعه الاعمال العبادية الخاصة وقد لا ينفعه ان يجهد نفسه بالدعاء في هذه الليلة .
النص من إعداد : الشيخ علي دعموش