26-11-2024 03:23 PM بتوقيت القدس المحتلة

إسرائيل: مخاوف من «التدحرج» نحو «أوحال» غزة

إسرائيل: مخاوف من «التدحرج» نحو «أوحال» غزة

لم يكن أمس يوماً عادياً. فقد ضغط الجيش الإسرائيلي بشدة من أجل دفع «حماس» للقبول بصيغة وقف إطلاق نار غير مريحة. وشاء الضغط أن يتواصل على الشجاعية شرقي مدينة غزة من دون ادَّعاء أن أحداً كان يستخف بالأمر.


حلمي موسى

لم يكن أمس يوماً عادياً. فقد ضغط الجيش الإسرائيلي بشدة من أجل دفع «حماس» للقبول بصيغة وقف إطلاق نار غير مريحة. وشاء الضغط أن يتواصل على الشجاعية شرقي مدينة غزة من دون ادَّعاء أن أحداً كان يستخف بالأمر. طلبوا من أهالي الشجاعية، ومنذ عدة أيام مغادرة المنطقة، لكن الاستجابة كانت ضعيفة. أين يذهب الناس، لا أقل من 150 ألف نسمة يقطنون حي الشجاعية، وهو أحد أكبر الأحياء في غزة.

لكن الضغط من أجل وقف النار يتطلب انتشار الجيش الإسرائيلي في هذا الحي المشرف على مدينة غزة بأسرها، والأقرب إلى الحدود. ومن الجائز أن غطرسة إسرائيل سولت لها أن التقدم يكون سهلا إذا ارتفع منسوب الدم في الجانب الفلسطيني ففتحت أبواب الجحيم، قصفاً وتدميراً وقتلاً في الشجاعية. وفي ليلة واحدة في حي الشجاعية استشهد ما لا يقل عن 60 من الأطفال والنساء والشيوخ المدنيين. وبعد القصف البحري والجوي والمدفعي تقدمت أرتال وحدات ألوية المشاة وقواتها الخاصة. وكان حظ لواء «جولاني» ووحدة النخبة فيه المسماة «إيغوز» سيئاً لأنها وصلت للقتال في الشجاعية.

كانت كمائن المقاومين واستشهادييهم جاهزة، وكانت صدمة الإسرائيليين هائلة: 13 من ضباط وأفراد قوات النخبة في «جولاني» سقطوا قتلى، وعن الجرحى حدِّث ولا حرج. اعترفت إسرائيل بجراح 65 جندياً حتى الآن، جراح الكثيرين منهم بليغة.

ويمكن من دون مبالغة القول إن الشجاعية أزالت البسمة عن وجوه الإسرائيليين. وعلى الأقل اعترف الجيش الإسرائيلي حتى الآن بمقتل 18 جندياً، والرقم مرشح للارتفاع. وقد سرت في صفوف الجيش مشاعر الخوف، ما دعا قيادة القوات إلى نفي الشائعات بنجاح حركة «حماس» في اختطاف جندي.

وفي كل حال فإن إسرائيل بدأت تشعر بثمن عدوانها على غزة، ليس فقط اقتصادياً ولا معنوياً وإنما أيضاً بدماء جنودها. فـ«القبة الحديدية» لا تعمل في قطاع غزة لتحمي أحداً من الجنود ولا قبة أخرى في غزة غير السماء. وهذا يضع الإسرائيليين أمام السؤال الجوهري: إلى أين المسير؟

البعض في إسرائيل لا يهمه إن كانت الحرب في غزة ستقود إلى إعادة احتلال القطاع أم لا. وقد أفصح عن ذلك حتى وزير الاستخبارات يوفال شتاينتس. وهناك في إسرائيل من نسي أن غزة كانت تسمى عندهم في اللغة الدارجة بـ«الجحيم»، وهو يطمح للعودة إليها. وهذا هو الخوف الحقيقي لدى الكتاب الإسرائيليين الذين يخشون من «تدحرج» العملية نحو الغرق في أوحال غزة.

فالمجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر، مسنوداً بدعم أميركي وتفهم إقليمي، حدد مهمته الأولى بالقضاء على الأنفاق المتجهة من غزة إلى إسرائيل، وهو يعلن «لدينا وقت» وليس هناك من يضغط لإنهاء العملية.

وفي «يديعوت احرونوت» يرى ناحوم بارنيع أن حكومة إسرائيل عملياً تنجر وراء ما تريده «حماس». ويبين أن التأييد الذي تناله الدولة العبرية حتى الآن لا يجب أن يخدعها، لأنه «مؤقت ومحدود». ويشير إلى أن العملية البرية تدفع الكابينت (الحكومة الأمنية المصغرة) نحو معضلة قاسية: «هل يمضي قدماً عميقاً في داخل غزة فيخاطر بسقوط عدد كبير من الجنود وبقتل جماعي لمواطنين فلسطينيين، أم ينسحب إلى الوراء مع إطلاق النار ويمنح حماس انتصاراً».

ومع ذلك يشير بارنيع إلى أن أهم ما تغير هو ما جرى في الجانب العربي. وأوضح أن التعقيد الحالي يكمن في أن «إسرائيل كانت تبحث منذ بدأت العملية عن وسيط يفضي إلى وقف إطلاق النار. وكان المصريون وسيطاً مريحاً لإسرائيل ـ مريحاً جداً. لكن حماس تقبل (الرئيس المصري عبد الفتاح) السيسي كما يقبل (رئيس الحكومة بنيامين) نتنياهو (رئيس الحكومة التركية رجب طيب) اردوغان تقريباً». وبعد تدخل أميركي وقطري وتركي وإماراتي أعيد عرض اسم الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) من جديد. ويبدو أن إسرائيل باتت تدرك أنه الحل وليس المشكلة.

ولخص المراسل العسكري لـ«هآرتس» عاموس هارئيل معركة الأنفاق بأنها نسبياً مريحة لإسرائيل، حيث التفوق في القصف وحيث «المقاومة قليلة نسبياً». وكتب أن الجيش الإسرائيلي يرسخ أقدامه في «شريط ضيق نسبياً عند أطراف المنطقة المبنية الفلسطينية، ويحصرون عنايتهم في المهمة المركزية التي ألقيت عليهم إلى الآن، وهي العثور على الأنفاق وتدميرها. وهذه هي المرحلة التي تخرج فيها حماس من الصدمة الأولى وتحاول أن تفاجئ القوات، وذلك في الأساس، باستعمال منظومة الأنفاق عن جانبي السياج الحدودي».

ولاحظ احتمال التضارب بين المتطلبات الميدانية والتقديرات السياسية، خصوصاً أن عديد القوات بات كبيراً، وأن الشريط الضيق الذي تتواجد فيه يتعذر الدفاع منه عن القوات. لذلك فكل تقدم يعني التوغل في المنطقة المأهولة، وبالتالي تعاظم الخسائر. وبعد أن يشير إلى هجمات «حماس» عبر الأنفاق في الجانب الإسرائيلي من الحدود، يقول إن الجيش تفاخر بإفشال عملية أنفاق من دون أن ينتبه إلى مقتل ضابط وجندي فيها و«كادت تنجح في إصابة ضباط كبار من اللواء 188 المدرع، وحينما تضع الحرب أوزارها ستكون هذه حادثة يضطر الجيش إلى التحقيق فيها جيداً». ويشير هارئيل إلى التعقيدات التي تعترض التوصل لوقف إطلاق نار والتي تجعلها مهمة أصعب.

وكان السجال في إسرائيل قد بدأ مع بدء الأحداث الأخيرة بالقول إن حكومة نتنياهو لم تحدد لنفسها هدفاً واضحاً، وأنها تريد إضعاف حكم «حماس» من دون أن تدفع لانهياره. وأثار ذلك خلافاً داخل الحكومة، دفع وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان للإعلان صراحة عن وجوب إعادة احتلال القطاع والقضاء على حكم «حماس». وتزايد أنصار هذه الفكرة بين الساسة والمعلقين. وكتب سيفر بلوتسكر، في «يديعوت»، أن السبيل الوحيد للتسوية هو الدفع باتجاه انهيار «حماس». ويكشف هذا القول عن تناقض داخلي كبير في المنطق الإسرائيلي، الذي لا يتطلع البتة نحو تسوية مع السلطة الفلسطينية، ويخشى من أن تقود الحرب إلى إضعاف رفضه هذا.

ويقول بلوتسكر أنه خلافاً لما يقول اليسار ليست التسوية السياسية هي ما سيقضي على «حماس» وإنما القضاء على الحركة هو ما سيقود إلى التسوية السياسية. ويرى أن «التسليم بسيطرة حماس على غزة كان خطأ استراتيجياً من الدرجة الأولى. وقد جلب علينا كل المشاكل المحتملة. بدءاً بتحول غزة إلى ترسانة سلاح صاروخي وحتى القرار بفرض حصار اقتصادي ومحيطي عليها. حصار أضر بالسكان الفقراء وعديمي الوسيلة، واعتبر في العالم جريمة نكراء. نكراء أكثر حتى من الصواريخ».

أما بن كسبيت، في «معاريف الأسبوع»، فلاحظ صعوبة القضاء على «حماس»، خصوصاً أن «الحركة» لا تزال تواصل إطلاق الصواريخ على أوسع نطاق في إسرائيل رغم مرور أسبوعين تقريباً. وأشار إلى أن ادِّعاء الدولة العبرية امتلاكها فترة سماح دولية ليس سوى وهم. وفي نظره «الساحة الدولية خائنة حتى أكثر من ساحة عبوات ومتفجرات حماس. فالعالم يمكن له أن ينقلب علينا دفعة واحدة. وهذا يحصل بشكل عام في التوقيت الأكثر مفاجأة والأقل راحة. وحتى تعطيل القدرات لحماس هو أمر مهم لكنه لا يكفي. مطلوب حسم. ليس بمعنى انتصارات الماضي، مع الاحتلالات والأعلام البيضاء، فهذا العصر انتهى. حماس لن تستسلم. الحسم، في عصرنا، هو ضرب الخصم ضربات لا ينساها لزمن طويل، ضربات تردعه من العودة إلى عادته على مدى أقصى حد ممكن من الزمن في المستقبل».

ولذلك فإن كسبيت، ورغم عدائه لنتنياهو، يطالبه ألا يخاف وأن يهز الجيش الإسرائيلي. وكتب «إذا كان ينبغي تغيير المفهوم والفكر، افعل هذا. لا لاحتلال القطاع، لا لتعيين حاكم عسكري، لا لانهيار حماس. فلسنا نحن من يقرر للفلسطينيين أي مجنون بالضبط سيحكمهم. نعم لتوجيه ضربة شديدة، إبداعية، جسورة، على قلب حماس. ليس على هوامش غزة، وليس على ضواحي غزة. على غزة».

ولكن الدعوات الحماسية من هنا وهناك لا تخفي الرغبة في إنهاء هذه الحرب بأسرع ما يكون، وعدم التورط في غزة. ويكتب عن ذلك المفكر حاييم أسا الذي طالب الحكومة بتحديد نقطة نهاية لهذه الحرب. وفي رأيه فإن «هذه المعركة أيضاً تستوجب تعريفاً ذكياً لوضع إنهائها. ويفترض بهذا التعريف أن يعبر عن النتيجة السياسية المرغوب فيها من إسرائيل. وإذا لم يكن تعريف النتيجة السياسية واضحاً، فإن وضع النهاية لحملة الجرف الصامد هو الآخر لن يكون واضحاً، ومن هنا ستبدأ كل المشاكل ـ مثلما في كل المعارك التي شهدتها إسرائيل في السنوات الأخيرة».

وأشار إلى أن هدف القضاء على الأنفاق أشبه بقرص مسكن لمريض يعاني مرضاً مزمناً، «فالأنفاق يمكن حفرها مرة أخرى، ووسائل الإطلاق والصواريخ يمكن إنتاجها وشراؤها من جديد. وعليه فإن هذا ليس هدفاً كافياً، وليس هدفاً سيؤدي إلى نتيجة سياسية محددة. إذا ما دمَّرنا الكثير من الأنفاق وذهبنا إلى البيت سنواصل من هنا لاحقاً التصرف وكأننا أغلقنا لهم الفم فقط، ولم نفعل شيئاً».

www.assafir.com

     موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه