وحده «أبو طبلة»، كما يسميه الأطفال، مرحّب به في مثل هذا الوقت المتأخر، فتشرع النوافذ لصوته، وترتسم ابتسامات الامتنان لسماعِه، وهناك من يستقبله على الباب، بكوبٍ من شراب الـ«عرقسوس»
«إصحَ يا نايم ووحّد الدايم».. «قوموا على سحوركن إجا رمضان يزوركن».. عبارات تكسر صمت أزقّة حي «الميدان» الدمشقي، وتبدد وحشة ظلمة الشوارع، التي قد تكون فيها أنوار الكهرباء مقطوعة، إذ بات التيار الكهربائي ينقطع انقطاعا متزايدا عن العاصمة السوريّة مؤخراً.
وبين نداءٍ وآخر تصدح به حنجرة المسحراتي عبد السلام بدوي، أو أبو سامر كما يعرفه سكان الحي، يضرب الرجل بعصاه الخيزرانية على طبلٍ صغير، ليصدر نقراتٍ معدودة بإيقاعٍ مدروس، هي كفيلةٌ ببث الحياة في الشارع، حيث يطل الأطفال من الشرفات، ويهرعون إلى مداخل الأبنية، متوسلين بضحكاتهم البريئة أبو سامر لكي يسمح لهم بالنقر على طبلته، ويتكرر المشهد وسط ضحكات الأهالي، أو نداءاتهم لاستمهال المسحراتي حتى يتمكن هذا الطفل أو ذاك من تحقيق أمنيته الصغيرة، التي سهر طوال الليل لأجلها، فيما يحرص أطفال آخرون على اللحاق بالمسحراتي لأطول مسافةٍ ممكنة، متطوعين لمساعدته بقرع الأجراس الكهربائية على أبواب المنازل.
وحده «أبو طبلة»، كما يسميه الأطفال، مرحّب به في مثل هذا الوقت المتأخر، فتشرع النوافذ لصوته، وترتسم ابتسامات الامتنان لسماعِه، وهناك من يستقبله على الباب، بكوبٍ من شراب الـ«عرقسوس»، والتمر هندي، في «ساحة السخّانة»، إحدى حارات حي «الميدان» الدمشقي العريق.
ويبدأ أبو سامر جولته الرمضانية اليومية في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، ملتزماً بحدود منطقته، فهو واحد من 15 مسحراتياً، يجوبون أزقّة حي الميدان كلّ ليلة، وهو ورث هذه المهنة والمنطقة، عن جدّه، وعمّه، حيث بدأ العمل بها منذ ثلاثين عاماً.
ث
لاثون عاماً، لم يضطر فيها «أبو سامر» للتوقف إلا في العامين الماضيين، نظراً لظروف الحرب القاسية التي فرضت على الشعب السوري، ففي بداية شهر رمضان من العام 2012، شهدت أجزاء واسعة من الحي الدمشقي معارك عنيفة بين الجيش السوري والمعارضة المسلحة التي انسحبت من الحي بعد أقل من أسبوع على دخوله. أما شهر رمضان الماضي فلم يكن الوضع يوحي بالثقة ليلاً في حارات هذا الحي المتاخم لمخيم «اليرموك»، لكنّ «المسحراتيّة عادوا هذا العام بعدما أصبح الوضع أكثر أمناً»، كما يؤكد بدوي.
ومع عودة مسحراتي «ساحة السخّانة»، ومسحراتية حارات الحي الأخرى، عادت ذكريات صخب ليالي رمضان إلى الشارع الدمشقي العريق. ويقول أبو سامر إنه بات يبذل جهداً مضاعفاً في السنوات الأخيرة، لكي يسمع صوته كل سكّان الحارة، الذين تزايد عددهم كثيرا، بعدما كثرت الأبنية العالية، ولم يعد يعرف كل أسماء أصحاب البيوت، ليناديهم بها، لكنّه ما زال يحتفظ بهذا الامتياز في محيط سكنه، الذي أضاف عليه نداءه الشهير «قوم أبو فلان.. وحّد الله».
«أيّام زمان، كان مسحراتية دمشق يحملون بأيديهم سلّة، ليضعوا فيها ما يقدّمه الأهالي لهم من أطعمة ومشروبات»، يروي عبد السلام بدوي، مضيفاً أنهم «كانوا يؤمنون سحورهم من خلال هذه السلّة، التي انقرضت منذ خمسة عشر عاماً تقريباً».
أما اليوم، فليس هناك مردود مادّي ثابت لمهنة المسحراتي، أو «أبو طبلة» كما يسمّونه في دمشق، بل جل ما يفعله هو أن يجوب «حيه» في أول أيّام العيد، وينقر على طبلته، منتظراً إكراميته من الأهالي. أما المهنة الأساسية التي يعتاش منها بدوي، فلا علاقة لها بمهنته الرمضانية، إذ يعمل في حقل الصيانة الفنية في «مشفى دمشق» منذ 21 عاماً، كما يحاول أن يحسّن دخله في رمضان من مردود بيع العصائر التي يعدّها في بيته قبل الإفطار، كـ«التمر هندي» و«الجلاب».
ورغم كونها غير مجدية ماديّاً، تبقى مهنة المسحراتي بالنسبة إلى أبو سامر الأحب إلى قلبه، فضلاً عن «الإحساس بالأمان» الذي يشيعه مروره بالحارة، كما يقول.
بدوره، أصبح سامر بدوي، الابن الأكبر لعبد السلام هذا العام مسّحراتي حارة «القاعة» في حي الميدان، بعد وفاة مسحراتي الحارة أبو فهد.ويبدو الشاب السوري سعيداً بالسير على خطى والده، وحريصاً في الوقت ذاته على هذه المهنة القديمة رغم كونه «ابن العصر الرقمي»، كما يقول، معتبراً أنه لا يجد «مجالاً للمقارنة بين نقرة الطبلة ورنّة الهاتف المحمول كوسيلةٍ للتنبيه».
يتوقف «أبو طبلة» الأب، والابن عن النقر.. إنها الثالثة بعد منتصف الليل، حان وقت السحور في دمشق. يتوجه الرجلان إلى منزلهما بعدما أهديا أمنياتهما للدمشقيين، فمع كل نقرة كلمات تقول «كل عام وانتو بخير... وتضل البلاد بخير».