يعرف ابن غزة، أن الريح غير مؤاتية. وان من كان معه قبل حرب أو حربين، كانوا أكثر بكثير. ويومها، لم تكن «الإخوانية» تهمة تستحق هذا السحق والانسحاق. يعرف ابن غزة ـ فلسطين، أن الإنسان العربي قد تعرض لكيِّ وعيه. طحنه الإعلام
هل لديك إحساس؟
قبل الجواب، هذا هو ابن غزة أمامك، فماذا أنت فاعل؟
ابن غزة ليس رقماً. له اسم يدل عليه. له عائلة يرتبط بها، له بيت يلتصق به، له حيٌّ يحيا فيه، له رفقة تطيب معهم الصداقة، له قطاع مقفل، ولكنه يجتازه إلى فلسطين، بما لديه من حرارة الانتماء والتماس المعنى والوجود.
نصري الصايغ/ جريدة السفير
ابن غزة له جسد بتقاسيم الجراح. من جراحه تعرفه. ولقدميه إحساس بأن أرضه هي روحه وهي عذاباته، وهو المنذور لإنقاذها بموته. شاهق هذا الفلسطيني. خالد هذا الإنسان. دمه دينه، ولدينه مشقة العطاء وآيات العزاء، لأنه مؤمن «بأنَّا لهذه الأرض وإنا إليها راجعون، وإنها إلينا لراجعة». صدق ابن غزة، فلقد طرد الإسرائيلي منها، وها هو يقاتل دفاعاً عنها وينشر العدوى في نفوس الضفة المحتلة.
فهل لديك إحساس؟
قبل الجواب، امتحن حساسيتك. كم مرة انفعلت، وماذا فعلت وكم من الوقت أعطيت؟ احسب ساعات ضجرك، وأيام هروبك من فلسطين وعنها؟
ابن غزة، المتروك من العالم كله، من الديانات كلها، من الدول جميعها، من المنظمات الدولية قاطبة، من جمعيات حقوق الإنسان، من أنظمة العرب، من «الربيع العربي» المنحور، مما تبقى من فلول الشعوب العربية...
ابن غزة هذا، أقوى من العالم كله، من الديانات كلها، من المراجع كلها، وهو، في وحدته وعزلته وغربته، قوي قوي، يواجه الوحشية الإسرائيلية، بقتال وصمود وعذاب وإيمان، يبشر بغد لفلسطين، تنزل فيه عن جلجلتها.
هل لديك إحساس ما، جرعة ضمير أو وخزة تقصير؟ هل أنت عابر كورق الخريف؟ هل تعبرك الأحداث الجسام ولا تترك غباراً في روحك، لأنك عصمتها من التأثر، وفضلت الراحة في تقليد التمساح، وتعوِّض عن بلادتك، بأن تذرف دموعاً تكذب وملحها من نفاق المناسبة؟
يرى ابن غزة وحدته. يعرف أن مصر، الأم الثانية له، قد أمرتها السلطة بالتخلي. مرارة النكران والعقوبة المستجدة، يعذبان الفلسطيني أكثر من الموت الذي تزرعه إسرائيل في حنايا بيوته وحاراته والخيام والشاطئ. يرى ابن غزة أن المجزرة التي تنتقي أطفالاً ونساءً وشيوخاً وأمهات وعائلات، كان يمكن أن تُعفى منها، لو أن «الأم الثانية» لوّحت بإصبعها في الوجه الإسرائيلي... لم ترتفع إصبع مصر، إلا لإقفال المعابر والأنفاق ولعقاب غزة، ولكتابة نص لوقف إطلاق النار، بحبر الانتقام من «الإخوان». ويا إخوان الأنظمة العربية، غزة ليست «الإخوان»، وفلسطين ليست «القاعدة»، وما ترتكبه إسرائيل، ارتكبته في السور الواقي، ودمرت الضفة وحاصرت أبو عمار، وقتلته مسموماً، ولم يرفع أحد سماعة الهاتف ليقرِئه السلام. رددوا قول بريجنسكي، «وداعاً منظمة التحرير»، وانتظروا جنازته حتى يهيلوا عليه وعلى فلسطين النسيان.
أمة المكر هذه، قتلت فلسطين بأيدٍ إسرائيلية، ورضى «الإخوة» وانتقام الأنظمة.
فماذا لديك لتقول لابن غزة؟ كيف تتضامن معه، هذا المتروك لجراحه ودمائه وخرابه؟ هل يكفي أن تقول له، أنا معك؟ سيصدقك، فهل تصدّق نفسك؟ أنت الممسك عن فلسطين والذي غررت به أضاليل الطوائف وأكاذيب المذاهب ونعم النفط وغنائم الغزو النيوليبرالي؟ هل تصدق أنك عندما تقول: «يا فلسطين، نحن معك»، أن قولك الذي يصدقه ابن غزة، لا معنى له، إلا إذا... «لا تغيِّر غزة ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».
يعرف ابن غزة، أن الريح غير مؤاتية. وان من كان معه قبل حرب أو حربين، كانوا أكثر بكثير. ويومها، لم تكن «الإخوانية» تهمة تستحق هذا السحق والانسحاق. يعرف ابن غزة ـ فلسطين، أن الإنسان العربي قد تعرض لكيِّ وعيه. طحنه الإعلام. شوّهته الأحداث. شوَّشت عليه الرؤية... دفعته إلى التبرؤ من الالتزام. بررت له عبثيته، لأن ما ارتكبته الأنظمة والممالك والطوائف وشياطين الجهاديين في سوريا والعراق وليبيا واليمن و... ما تبقى من الأمة المخلَّعة، فوق طاقة أجيال من الاحتمال.
يعرف ابن غزة، ان القتلى في الشام، بالمئات أسبوعياً. عدّاد القتل في العراق لا يتوقف. سوريا بلغت مرتبة الـ... «وصرت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصال». أي إنسان لا يصاب بالتبلد في هذا المسار العبثي؟ لا مشهد يفرح جسد هذه الأمة، نحن في دوامة التشوُّه. لم نعد بشراً. لم نعد ناساً. أتلفت نخاعنا وشبكاتنا العصبية، هذه المذبحة الهمجية. نستطيع أن نمارس حياتنا الطبيعية، وسط ركام الجثث المتدفقة من الشاشات والمتناقلة عبر وسائط التواصل الاجتماعي. عذاباتنا، كانت في الأول. في البدايات، ثم... انتهينا إلى ان نعيش حياتنا بلا أفق أو أمل أو فرح حقيقي. كل أفراحنا بلاستيكية، لا عمق فيها، لا شهوة ولا لذة. انها أفراح مرّة.
هل لديك إحساس؟
بلى! لدينا من الأحاسيس ما كان يجعلنا نبضاً واحداً، وشعوراً واحداً، وكياناً واحداً. كان ذلك في عصر الهوية الجامعة. الهوية القومية ذات البعد الإنساني. يومها، كانت فلسطين نحن، من المحيط إلى الخليج. ذاك زمن كنا فيه بشراً حقيقيين، بقيم حقيقية وبأجنحة عابرة للكيانات والأقطار والأقاليم والديانات. كانت لنا أجنحة بسعة فلسطين الكبرى.
لقد اغتالونا، فقط بسبب فلسطين، والذين اغتالونا، كانوا منا.
ماذا تبقى منا؟
هذا يوم للتضامن الإعلامي في لبنان مع فلسطين. هو الحد الأدنى، مع أمل في تطوير يبلغ الحد الأفضل. هذا يوم نتضامن فيه مع ابن غزة الفلسطيني، لنقول له، «لست وحدك»، و«نحن معك». انما، بعد ذلك، هو يوم لمساءلة الذات: كيف أنقذ نفسي من اللامبالاة؟ كيف أجدد خلاياي الروحية؟ كيف أجدد شبكة إنسانيتي؟ إن ذلك يفترض أن نغتسل مما يلوِّث ضميرنا وأخلاقنا وسلوكنا.
لقد أخذتنا الردة القومية والردة الدينية والردة النفطية إلى الركام والانهيار والعبث واليأس، وكنا في ذلك جنوداً ولم نكن شهوداً. فلسطين إذا ارتقت عندنا إلى مقام الوجدان وقيم الإنسان، تظل «قطاعاً» يُرمى بأطنان القنابل، فيما نحن ركام بلا روح، نفتش عن ملاذ أخلاقي لنبرر عجزنا، فنلتقي في مناسبة، نغسل بعدها أيدينا من غزة... إذ ليس باليد حيلة، وأهل فلسطين أدرى بشعابها. (وما أقبح هذا القول!)
كي نستعيد فلسطين يوماً، علينا أن نعود إليها، وأن نكون الشّبَه والصوت والصدى والوجع. ان نكون الفلسطيني الشاهق بعذاباته وآماله ونضالاته. وأن لا نكون مجرد متفرجين. أن نكون سلاحه الآخر.
هل لديك إحساس!
فلسطينيتك هي الجواب، وقبضتك سلاحك، فاغضب. فلسطين بحاجة إليك.