بصرف النظر عن مآل الحرب الاسرائيلية الجديدة على قطاع غزة، فهي وجهت - كما يبدو حتى الآن - أقسى ضربة للاحتلال في المواجهات المتتالية بين المقاومة والاحتلال في قطاع غزة على مدى السنوات الطويلة الماضية.
علي عبادي
بصرف النظر عن مآل الحرب الاسرائيلية الجديدة على قطاع غزة، فهي وجهت - كما يبدو حتى الآن - أقسى ضربة للاحتلال في المواجهات المتتالية بين المقاومة والاحتلال في قطاع غزة على مدى السنوات الطويلة الماضية. سقطت "اسرائيل" في شر أفعالها، بعدما رفضت كل المبادرات لرفع الحصار عن القطاع واستخدمت سلاحها الجوي سيفاً مسلطاً لضرب الفلسطينيين انتقائياً، لكن ذلك كله لم يحقق لها الهدف المرجو في الحد من قدرات المقاومة التي ظهرت كمارد يخرج من القمقم ليقدم أداء يفوق حجم القطاع الصغير المساحة والمغلق منذ ثماني سنوات
توشك الحرب ان تسجل خسائر شاملة للجانب الاسرائيلي على الصعد العسكرية والإعلامية والسياسية.
عسكرياً، سجلت المقاومة أهدافاً عديدة في المرمى الاسرائيلي في هذه الحرب، يمكن تلخيص بعضها كالآتي:
- فاجأت قدرات المقاومة الكثيرين، حتى الإسرائيلي - الذي كان يتباهى بمعلوماته الإستخبارية عن القطاع وإمكاناته العسكرية الأسطورية (ويعرض بطولاته في القبض على السفن التي تنقل السلاح اليه) - بدا محدود الحيلة وهو يرى صليات الصواريخ التي تنطلق من غزة ولا تجد القبة الحديدية سبيلاً لوقفها. الأمر يتعلق بالمخزون الصاروخي الضخم والمتنوع، وهذه هي المرة الأولى التي تصل ذراع المقاومة من غزة الى أقصى الشمال الفلسطيني، واضعةً معظم الاسرائيليين تحت نيران مظلة صاروخية تفرض نفسها بجدارة. لم يعد شعار "اضرب تل ابيب" الذي كان الفلسطينيون يرددونه في التظاهرات حلماً يرتجى، بل أضحى حقيقة يومية تعيي القادة الاسرائيليين وجيشهم. وإنه لمن المهم جداً ان تكون المقاومة الفلسطينية المحاصرة هي من يترجم هذا الشعار بوضع غزة مقابل تل ابيب وكل العمق الاسرائيلي.
- في هذا السياق، لم يتمكن الطيران الاسرائيلي من وقف اطلاق الصواريخ البعيدة المدى، وهي صواريخ ليس من اليسير إخفاؤها او نقلها او تحريكها وتحتاج الى وقت لتجهيزها للاطلاق. والرهان على نفاد مخزون المقاومة من هذه الصواريخ يبدو خائباً، طالما ان الاحتلال نفسه يعتقد ان 20 بالمئة فقط من قدرات المقاومة الصاروخية تم استخدامها او دمرها طيرانه.
- أعدت المقاومة نفسها جيداً للحرب البرية التي تردد نتنياهو طويلاً في خوضها، وتجنبها في الحرب السابقة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 برغم استدعاء قوات الاحتياط وقتها. فقد ضرب المقاومون خلف خطوط العدو عبر الأنفاق والتسلل عن طريق البحر، مسجلين خسائر فادحة في جيش العدو، ومظهرين تصميماً عالياً على إلحاق الهزيمة به، ومتحلين بالبأس والقدرة على التحمل. وأضحت الأنفاق هاجساً لجيش الاحتلال حتى عدّها واحداً من أهداف حملته العسكرية، مطلقاً عليها وصف "غزة السفلى" (تحت الأرض)، وهي أتاحت مفاجأة الجنود الصهاينة في مواقع عدة. كما ان الصواريخ المتطورة المضادة للدروع من الكورنيت والمالوتكا والكونكرس ظهرت بوفرة لتهدد مدرعات الاحتلال الحصينة وتنال من بعضها، مضافة الى العبوات الشديدة الانفجار التي أعاقت تقدم الغزاة.
- لم يتمكن الجيش الصهيوني من النيل من أي من قيادات المقاومة حتى لحظة كتابة هذه السطور، بخلاف ما حصل مرات عدة في الماضي، وهذا مؤشر على استيعاب العبر من التجارب السابقة والإعداد المسبق للحرب.
خسارة الحرب الإعلامية
ظهر مرة أخرى ان قدرة العدو على التحكم بالمعلومات واصطناع المصداقية من خلال الصور الجوية أصبحت من الماضي. والأداء الاعلامي الاسرائيلي خلال هذه الحرب يحتاج دراسة قائمة بذاتها، لكن ما يمكن التوقف عنده في هذا المجال نقاط سريعة:
أ- اكتسبت المقاومة مصداقية من خلال سلسلة وقائع عجز العدو عن دحضها، بدءأ من عملية نسف موقع كرم ابو سالم الاسرائيلي جنوب القطاع عبر نفق، مروراً بعمليات تسلل خلف خطوط العدو وتكبيده خسائر، وصولاً الى أسر جندي (حياً كان او ميتاً).
ب- التكتم الاسرائيلي على الخسائر استمر لأيام، لكن لم يعد ممكناً الاستمرار فيه، واضطرت الرقابة العسكرية التي تستند الى منظومة متكاملة من الموانع للإفراج عن بعض المعلومات والإقرار بحصيلة لم يسبق ان تكبدتها اسرائيل في المواجهات البرية مع المقاومة الفلسطينية في الداخل منذ التسعينيات، إذا استثنينا معركة مخيم جنين بالضفة الغربية في نيسان/ ابريل 2002 عندما خسر العدو 23 جندياً. ومع مرور الوقت أدى التعتيم الى خسارة الجانب الاسرائيلي ثقة جمهوره الذي لجأ الى مواقع التواصل الاجتماعي الالكترونية لتبادل المعلومات حول الخسائر البشرية وأماكن سقوط الصواريخ، كما بدأ يأخذ بالمعلومات التي توفرها مصادر المقاومة.
ت- حتى بعد مرور اسبوعين على بدء العدوان الاسرائيلي، لم نر مكاناً سقط فيه صاروخ في تل ابيب او القدس او حيفا او ديمونا، الأمر الذي يظهر "براعة" اسرائيل في حجب المعلومات والصور وأيضاً تكيف ( او انضباط !) وسائل الاعلام الدولية مع هذا التعتيم من دون ان تبذل عناء في توجيه ملاحظة بهذا الخصوص. وقرر الاحتلال أخيراً الافراج عن صور لمكان سقوط صاروخ في تل ابيب (لم توضح الرقابة العسكرية كيف "أفلت" من القبة الحديدية) لمحاولة ايجاد "توازن" مع صور المجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال في حي الشجاعية وأحياء اخرى في مناطق عدة من القطاع.
ث- حرص الاحتلال خلال الأيام الأولى للحملة العسكرية على إعطاء انطباع بأنه يتجنب المسّ بالمدنيين، التزاماً بـ" أخلاقيات اسرائيل"، مقدماً مثلاً في إعطائه إنذارات لبعض أهالي غزة عبر الاتصال بهم هاتفياً لإخلاء بيوتهم بحجة أنها تؤوي المقاتلين، قبل قصفها بفاصل دقائق معدودة. وأرضت هذه الممارسة مسؤولين غربيين متعاطفين مع اسرائيل، وكأن تشريد الآمنين شيء مرحب به! علماً ان الكثير من العائلات قضت تحت أنقاض منازلها دون ان تتاح لها فرصة للمغادرة.
ج- لو لم يكن من نتيجة عسكرية لهذه الحرب سوى سقوط وهم "القبة الحديدية" لكفى ذلك. لقد أشاعوا ان هذه المنظومة التي أُنفقت عليها اموال طائلة، وفّر دافع الضرائب الاميركي بعضاً منها، تتمتع بقدرات أسطورية (ادعوا أنها قادرة على اسقاط ما يصل الى 90 % من الصواريخ المعادية)، ثم تبين ان ثمة كذبة كبيرة أطال القادة الاسرائيليون عمرها لسنوات. وفي الغالب يحرص الاسرائيلي على تأكيد وقوع الصواريخ التي "تفلت" من "القبة" في أراض مفتوحة، اي غير مأهولة، وانها لا تسبب في أكثر الأحيان سوى الصدمة النفسية للمستوطنين، وكأن هذه الصواريخ المحملة بعشرات او مئات الكيلوغرامات من المواد المتفجرة ليست سوى مفرقعات او قنابل صوتية! لكن الاسرائيلي امتنع في غالب الحالات عن تحديد اماكن سقوط الصواريخ واظهار الأضرار التي نتجت عنها.
نتنياهو على خطى أولمرت
في حرب لبنان الثانية في تموز/يوليو 2006، بدأ الجيش الاسرائيلي بعملية محدودة هدفها المعلن استعادة الجنديين الأسيرين لدى حزب الله، لكن العملية تدحرجت وتحولت الى حرب دامت 33 يوماً، وانتهت على نحو كارثي في وادي الحجير وسهل الخيام قرب الحدود. وفي تموز/يوليو 2014، يكرر الاسرائيلي التجربة، فيتدحرج من "عملية الجرف الصامد"، كما أسماها، الى حرب مفتوحة نتيجة عدم وجود أفق واضح لديه للخروج من هذه العملية بصورة تحفظ ماء وجهه. وهو يبحث عن أي انتصار يمكن ان يقدمه لجمهوره من اجل وقف النار.
صحيح ان نتنياهو كسر حاجز الخوف من الإقدام على عمل بري ولو محدود في القطاع، لكنه يبدو كمن صعد الشجرة وينتظر من يقدم له سلّماً للنزول منها. فهو يريد هدوءاً طويل الاجل وتدمير البنية التحتية للمقاومة من أنفاق وصواريخ طويلة المدى، بدون احتلال قطاع غزة مباشرة، ولكن من يضمن له هذه النتيجة؟
تدرَّجت أهداف الحرب من حماية المستوطنات في "غلاف قطاع غزة"، ثم الى وقف الصواريخ الطويلة المدى وتدمير الأنفاق، وعينُ نتنياهو على الداخل حيث واجه في البداية اتهامات بالضعف، ويقترب الآن من مصير اولمرت ليتحمل مسؤولية الفشل في تحقيق الأهداف المعلنة.
لقد نقلت "حرب الأنفاق" المعركة خارج القطاع، وأشعرت الاسرائيلي ان خطوطه الخلفية في المستوطنات المقابلة لغزة مهددة. وكشفت الصواريخ الطويلة المدى عمق "الجبهة الداخلية" وقلبت المعادلة العسكرية وصدمت الوعي الاسرائيلي بحقيقة أن لا أمن لإسرائيل بدون ضمان الأمن الفلسطيني: تكافؤ لم يسبق تحقيقه بهذا الشكل من قبل.
للتواصل مع الكاتب: aliabadi2468@yahoo.com