كلما طالت الحرب الإسرائيلية على غزة اكتشف الإسرائيليون أن كل محاولاتهم على مر السنين لضبط الوضع في القطاع والتحكم فيه بقصد إدارته أنتجت عكس المطلوب. فالجدران الأمنية الحدودية
المقاومة تستخدمها لصنع أسلحة... وشنّ هجمات خلف الحدود
حلمي موسى
كلما طالت الحرب الإسرائيلية على غزة اكتشف الإسرائيليون أن كل محاولاتهم على مر السنين لضبط الوضع في القطاع والتحكم فيه بقصد إدارته أنتجت عكس المطلوب. فالجدران الأمنية الحدودية، التي تحول بدرجة عالية دون نجاح عمليات تسلل المقاومين الفلسطينيين، وجدت الرد عليها بالصواريخ التي تتخطى الجدران.
وعندما توجه الانتباه الإسرائيلي نحو مقاومة الصواريخ بإنتاج مضادات لها على شكل "القبة الحديدية" طورت المقاومة في غزة صواريخ أبعد مدى، وفكرت في طرق التفافية جديدة. وكانت فكرة "الكوماندوس البحري" أو "الضفادع البشرية" نوعاً من الرد الجزئي. لكن كل ذلك كان لا شيء تقريباً مقارنة بما جرى على صعيد الأنفاق.
فمشروع الأنفاق في غزة لم يكن مجرد خطوة دفاعية في مواجهة طائرات ومناطيد الرقابة الإسرائيلية، التي تقريباً تسيطر على كل حركة في القطاع. وصارت الأنفاق مشروعاً استراتيجياً للمقاومة في إطار الدفاع والهجوم على حد سواء. فقد أصبحت الأنفاق موضعاً للحماية ولإدارة المعركة، والأهم أيضاً لإنتاج السلاح، بما فيه الصاروخي، بعيداً عن الرقابة. لكن ما منح الأنفاق قيمة عليا أيضاً هو الدور الذي تؤديه على الصعيد الهجومي.
ومن الواضح من عدد الأنفاق المتجهة إلى إسرائيل، والتي إما استخدمتها المقاومة عملياً واكتشف العدو أمرها، أو تلك التي تم اكتشاف بعض مداخلها في الجانب الفلسطيني من الحدود، أن هذا كان مشروعاً كبيراً وبحدود كبيرة. فالحديث يدور عن عشرات الأنفاق حتى الآن، سواء المكتشفة أو التي لم يتم اكتشافها. وليس صدفة أن سكان مستوطنات غلاف غزة باتوا في ذعر شديد من الأنفاق، لدرجة أن بعض هذه المستوطنات خلت من سكانها. والأدهى ذلك الذعر، الذي أصاب أفراد الجيش الإسرائيلي من الأنفاق، لدرجة أربكت خطط الجيش الإسرائيلي في التحرك إلى الأمام خشية من الكمائن ومحاولات أسر الجنود.
ويتندر بعض الخبراء الإسرائيليين بشكل ساخر، فيقولون إن ضيق غزة دفع أهلها إلى بناء طابق آخر تحت الأرض. ويقول آخرون إن في غزة مدينة كاملة تحت الأنفاق، يفخر بها الجيش الكوري الشمالي لو امتلك مثلها. وكانت صور طائرات الاستطلاع، التي تكشف نجاح المقاومين في الوصول إلى المواقع العسكرية والمستوطنات عبر الأنفاق، قد شكلت صدمة ملموسة لجميع الإسرائيليين.
وقد أثارت الأنفاق وكثرتها وخطرها حتى صحيفة "هآرتس" التي رأت في افتتاحيتها أن "تهديد الأنفاق ليس سيناريو خيالياً بل كابوس يتحقق، يقضّ المضاجع، وعن حق، لدى الإسرائيليين الذين يسكنون على مقربة من غزة. في ضوء ذلك، فإن الهدف الذي قرره رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو - العمل على تصفية الأنفاق في إطار الحملة الحالية - مبرر". لكن الصحيفة لاحظت أنه "ينبغي التساؤل كيف أن ما يعرض الآن كخطر استراتيجي مهم على الدولة، لم يكتشف إلا في أعقاب الاجتياح البري لغزة وتصفية الخلايا التي تسللت إلى إسرائيل. كيف حصل أن هذا الموضوع المهم لم يحظَ بمعالجة وجواب شافيين قبل ذلك، مثل مشكلة نار المقذوفات الصاروخية والصواريخ".
وفي إسرائيل يتعاظم التقدير بوجود إخفاق استخباري وعسكري هائل في كل ما يتعلق بالأنفاق. ويقر خبراء أن الأنفاق معروفة ومستخدمة في عمل المقاومة منذ العام 2000 على الأقل، حين نفذت المقاومة في غزة عمليات ضد الجيش الإسرائيلي مستخدمة هذا الأسلوب. ولقي 11 جندياً إسرائيلياً مصرعهم في الفترة بين العامين 2000 و2004 فقط في عمليات عبر أنفاق في محور فيلادلفي. ويشير خبراء إلى أن الشعور بالإخفاق تعاظم بعد أن تبين أن تقديرات الاستخبارات حول الأنفاق الممتدة إلى داخل إسرائيل بعيدة عن الحقيقة. فقد كان الجيش يتصور أن هناك في أسوأ الحالات عشرة إلى 12 نفقاً. لكن الآن يتحدثون عن 28 نفقاً اكتشفوها والمجهول أكبر.
ويبدو أن الإسرائيليين ورغم مرور أسبوع على بدء الحرب البرية، التي أكدوا أن غايتها الرئيسية هي تدمير الأنفاق، يضطرون للإعلان مسبقاً أن ليس هناك ما يضمن اكتشاف كل الأنفاق فقط المؤدية إلى إسرائيل قبل انتهاء الحرب الجارية. وليس هناك في إسرائيل جهة تستطيع تأكيد وجود أي أسلوب أو آلية تمنع "حماس"، أو أية قوى فلسطينية لاحقاً، من العودة لحفر أنفاق إلى داخل إسرائيل.
وتستخدم إسرائيل في محاولات اكتشاف وتدمير الأنفاق على المنطقة الحدودية في غزة كل التقنيات المتقدمة والبدائية، من دون تحقيق إنجاز حاسم. وبقيت الأنفاق لغزاً يحير الخبراء الإسرائيليين رغم استخدام روبوتات وكلاب بوليسية ومتقصي الأثر. وحاولت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية اعتقال أكبر عدد ممكن من المدنيين في المناطق الحدودية بقصد جمع معلومات تفيد في اكتشاف الأنفاق. وبحسب ما نشرت "يديعوت أحرونوت" فإن إسرائيل تستخدم أنماطاً جديدة من المتفجرات السائلة في سبيل تدمير الأنفاق. ومن المؤكد أن هذه ليست الطريقة الوحيدة لتفجير الأنفاق، خصوصاً أن الطائرات الإسرائيلية تقوم بإلقاء قذائف أعماق، تقوم على فكرة التغلغل في الأعماق لتدمير الأنفاق إن وجدت في محيطها.
وبحسب ضباط في قيادة الجبهة الجنوبية فإنه "لا توجد قبة حديدية لخطر الأنفاق، وليس هناك في العالم حل لهذا الموضوع". وكشف الضابط عن الجهود الهائلة التي تبذلها إسرائيل منذ سنوات لاكتشاف الأنفاق وتدميرها من دون نجاح. وقد طورت وحدات خاصة إسرائيلية أجهزة تقنية لمواجهة هذه الظاهرة، إلا أن القائمين على عملية التطوير يعترفون بأنه لا سبيل حتى الآن لاكتشاف الأنفاق، وأن كل ما يتوفر هو للتعامل مع الأنفاق بعد اكتشافها. لذلك لم يبق لدى الجيش من وسيلة سوى اللجوء للحفر على طول الحدود، وبأعماق كبيرة، وهي مهمة تكاد تكون مستحيلة بسبب الإدراك أنه إذا كانت الأنفاق حالياً تحفر تحت الأرض بعشرين وخمسة وعشرين متراً، فإن كل حاجز يُقام على هذا العمق سيقود إلى الحفر بأعماق أكبر. ورغم صغر القطاع فإن طول حدوده من البحر حتى كرم أبو سالم تبلغ 64 كيلومتراً، وهذا لا يجعل المهمة قابلة للتحقق.
ويشير ضابط إسرائيلي رفيع المستوى إلى "أننا اكتشفنا 28 نفقاً حتى الآن، لم يتم تدمير سوى ستة منها. ونحن نلحظ قتالاً متزايداً حول الأنفاق". ومعروف أن "كتائب القسام" نفذت حتى الآن في حرب "الجرف الصامد" ست عمليات على الأقل داخل إسرائيل مستخدمة أنفاقاً عابرة للحدود. وبديهي أنه تم اكتشاف هذه الأنفاق، وهي التي تمّ تدميرها، في حين يعلم الجميع أنه سبق للمقاومة خلال الشهور الأخيرة أن استخدمت على الأقل ثلاثة أنفاق في محاولات لتنفيذ عمليات داخل مواقع عسكرية إسرائيلية. وهذا يعني أن غالبية الأنفاق التي يتحدث العدو عن تدميرها تم اكتشافها فقط بعد استخدامها من جانب المقاومة.
http://www.assafir.com/Article/1/362933
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه