لم يكن الفلسطينيون ولا العرب في حاجة إلى أي إثباتات تؤكد بشاعة إسرائيل، ومدى وحشية جيشها. فكل تجارب هذا الجيش في فلسطين ومصر وسوريا ولبنان رسمت لدى هؤلاء صورة واضحة لخريطة الجينات الإسرائيلية
حلمي موسى
لم يكن الفلسطينيون ولا العرب في حاجة إلى أي إثباتات تؤكد بشاعة إسرائيل، ومدى وحشية جيشها. فكل تجارب هذا الجيش في فلسطين ومصر وسوريا ولبنان رسمت لدى هؤلاء صورة واضحة لخريطة الجينات الإسرائيلية، وطبائع حمضها النووي.
لكن الجديد في حرب «الجرف الصامد» على غزة أن الإسرائيلي في القرن الحادي والعشرين، وبعدما أغرق العالم في أكاذيبه عن القيم والأخلاق اليهودية والحضارية، صار يتباهى بالوحشية ويتغنى بها. وما اعتراف الجيش الإسرائيلي بتغيير سياسته النارية في غزة، وتنقله السريع من استهداف الأفراد إلى استهداف العائلات، ومن قصف الشقق إلى قصف الأبراج، ومن التهديد إلى استهداف وتدمير المستشفيات إلا أحد تعابير التباهي بالوحشية.
ولا تكمن المشكلة في الجيش الإسرائيلي، بل تتخطاه إلى المجتمع الإسرائيلي، الذي صار يتغنى بالوحشية والتلذذ بها. وقد أشار إلى ذلك المعلق في «هآرتس» جدعون ليفي، في مقالته بعنوان «يا للجمال، أولاد قتلى»، تعبيرا عن فرح الجمهور بمقتل الأطفال الفلسطينيين.
بعدما أشار إلى رقم أولي فلسطيني يتحدث عن مقتل 158 طفلاً في الحرب، وهو رقم أكبر من عدد من سقطوا من فصائل المقاومة، وفي مقدمتها «حماس»، وأنهم بين رضيع وصبي، يقول إن هذه هي «الرصاص المسكوب 2» وهي تفوق بفظاعاتها «الرصاص المسكوب 1» التي أفضت إلى تقرير غولدستون. ويبين أن العالم ينشر صور وقوائم بأسماء الأطفال، وهو أمر «لا تتقبله أجزاء واسعة من الرأي العام الإسرائيلي المغسول الدماغ والمتحمس ببلادة حس، بل بفرح ظاهر، وإن كان يصعب على العقل أن يصدق. كان هتلر أيضا ولداً، هذا شعار كتب على كتلة مكعبة إسمنتية عند مدخل نتيفوت».
وينقل ليفي، عن مدونات في موقع «والا» الإخباري، بعد مقتل أربعة أطفال من عائلة بكر على الشاطئ بينها: «شنيه مويئيل: يهم مؤخرتي أن قُتل أولاد عرابيش (عرب)، من المؤسف أنه لم يُقتل أكثر. كل الاحترام للجيش الإسرائيلي؛ وستاف سباج: الحقيقة أنها صور مفرحة. ولكثرة ما تفرحني يطيب لي أن أشاهدها مرة بعد أخرى؛ وشارون أفيشاي: هل أربعة فقط؟ إنها بعصة. كنا نتوقع أكثر؛ ودانييلا ترجمان: إنها لذة. يجب قتل الأولاد جميعاً؛ وحايه حتنوفيتش: لا صور أجمل من أولاد عرب أموات؛ وأورنا بيرتس: لماذا أربعة فقط؟؛ وراحيل كوهين: لا أؤيد أن يقتل أولاد في غزة. أنا مع أن يُحرق الجميع؛ وتامي مشعان: ليمت أكبر عدد من الأولاد».
وبعد أن يعترف ليفي للجمهور الإسرائيلي بحق القلق جراء تساقط الصواريخ الفلسطينية، يرى أن «الانعدام المطلق لشيء من الشفقة على ضحايا الطرف الآخر، حتى لو كانوا أطفالا يُقتلون بأعداد مخيفة، يسجل رقماً قياسياً آخر للعار حتى في سجل الأرقام القياسية الإسرائيلي».
ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داود؟ فجدعون ليفي مصنف لدى الجمهور الإسرائيلي ضمن اليسار الإسرائيلي المتطرف، وربما أن البعض منهم يعتبره أشد إرهابية حتى من مقاومي «حماس».
وفي «معاريف الأسبوع» يعبر بن كسبيت عن مزاج الشارع الإسرائيلي ونخبته الثقافية والإعلامية. وبعد أن يصف الألم الذي يعتريه لرؤية الدموع في عيون الجنود، خاصة في جنازة نائب قائد لواء «جولاني» الذي قتل في غزة الرائد تسفرير بار أور، يقول «هؤلاء هم لحم للمدافع. فمن بين كل الجيوش الحديثة الموجودة اليوم في العالم، الجيش الإسرائيلي وحده يدخل جنوده إلى بيت مفخخ، بدلاً من أن يسحقه بقذيفة واحدة من الجو. بيت كهذا جبى أمس حياة عزيزة للمظليين الشبان. أنت تسمع عن طياري سلاح الجو الذين يستاؤون من الضغوط القانونية التي تجبرهم مرات عدة على التخلي عن مساعدة المقاتلين على الأرض من الجو كي لا يمسوا بالأبرياء».
ومن منطلق أن الجنود الإسرائيليين القتلى هم أسماء لأشخاص لهم عائلات وأبناء وإخوة يحزنون عليهم، وأن الشهداء الفلسطينيين مجرد أرقام وعملية حسابية مجردة، يعتب بن كسبيت أن العالم يتذمر من السلوك الإسرائيلي «غير الوحشي». وطبيعي في هذه الحال أن يغضب من هذا التذمر ويعلن: «بعد كل هذا، تقول لنفسك فليشكلوا ألف لجنة غولدستون، وليحرمونا جميعاً من إمكانية الإجـازات في الخـارج، فليقفزوا لنا، كل هذا معاً لا يساوي حياة مقاتل واحد من الجيش الإسـرائيلي. واحد. فنحن في كل الأحوال نأكل السمك الفاسد ونتلقى كل الانتقاد الذي في العالم، أليس كذلك؟ إذاً لماذا ندفع الثمن في الـرأي العام وندفعه أيضا في حياة الإنسان؟ لماذا لا ينهض، لنفترض، رئيـس الوزراء، ويعلن بأنه حتى إشعار آخر، في كل مرة يتعرض فيها الجـنود في الميدان للخطر من جهة منزل أو مؤسسة ما أو مبنى آخر فـي غزة، فإنـه ببساطة سيسوى بالأرض؟».
وكأن الجيش الإسرائيلي لا يفعل أي شيء كهذا. فبن كسبيت لا يعرف أنه خلال ساعات قليلة ألقى الجيش الإسرائيلي على الشجاعية، وهي منطقة مأهولة بكثافة ولا تزيد مساحتها عن أربعة كيلومترات مربعة، 120 طناً من المتفجرات، بنوع واحد من القذائف بزنة طن لكل واحدة. ولذلك فإنه يقول: «يؤسفني، ولكن التباهي بلقب الجيش الأكثر أخلاقية في العالم لا يساوي عندي حياة جندي واحد. فعلى أي حال، أحد لا يصدقنا. حان الوقت لان نفكر بهؤلاء الأبناء، الذين يوجدون هناك كي يحمونا. حان الوقت لان نحميهم، بكل ما نملك، في كل مكان، كل زمان».
والواقع أن موقف كسبيت يستند إلى شعور إسرائيلي يقول بأنهم دوماً على حق بصرف النظر عما يفعلون. فالمشكلة لا تكمن أبداً في إسرائيل بل في أعدائها. وهكذا تحت عنوان «نحن على حق» كتب آري شافيت، في «هآرتس» وليس في «إسرائيل اليوم» المؤيدة لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أن إسرائيل تحارب الفاشية وأنها تدافع عن «وطنها الوحيد وشعبها الواقع تحت العدوان».
وبعد أن يعرض أسئلة كثيرة يؤكد أنها تحتاج إلى أجوبة نابعة عن دراسة وتستحق الاهتمام، لكن لا أهمية لأي شيء الآن سوى للإجابة عن أسئلة أخرى، وهي: «من نحارب، وعلامَ نحارب وهل نحن على حق». وفي نظره فإن «حماس» منظمة فاشية، لذلك فإن أي شكل من أشكال التعاطف معها يعتبر إجراماً. ولهذا يرى أن ما يقصف في غزة وما يقتل كله «حماس» وأن من يتعاطف مع الحركة «يعاون استبدادا دينيا متطرفا ظلاميا. هل تحدث عاموس عوز عن نازيين إسرائيليين جدد؟ إن رجال حماس هم نازيون فلسطينيون جدد. فقد حوّلوا الأرض الفلسطينية الأولى التي حظيت بحرية (نسبية) إلى قلعة حكم شمولي. وهاجموا إسرائيل مرة بعد أخرى في مدة عقد، ورفضوا رفضاً باتاً كل محاولة إسرائيلية لمنع التصعيد الحالي. وأصروا على إطلاق آلاف القذائف الصاروخية على سكان مدنيين».
وفي نظر شافيت فإن «حماس»، وطبعا غزة بأكملها من ورائها، صاغت «إستراتيجية مُحكمة، لكنها شريرة، لها غايتان: قتل يهود أبرياء وجعل الجيش الإسرائيلي يقتل فلسطينيين أبرياء». فـ«حماس» ليست منظمة فلسطينية لمقاومة الاحتلال، بل هي منظمة لقتل اليهود مباشرة وقتل العرب بطريقة غير مباشرة. والجيش الإسرائيلي لا يدافع عن احتلال وعن استمرار حصار غزة، بل يدافع عن معجزة «الوطن اليهودي» الذي تحاول «حماس» والقوى الظلامية تدميره. ولذلك يخلص إلى أن «ما يفعله طيارو سلاح الجو الإسرائيلي الآن هو تمكين الدولة الواحدة للشعب اليهودي من البقاء. وما يفعله جنود جولاني والمظليون والشباب الطلائعيون الآن هو تمكين الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط من البقاء. والذي يواجهه سكان الجنوب هو محاولة كريهة لهدم بيتنا على رؤوسنا. ولا يجوز أن ننسى ذلك، حتى حينما تكون الصور من غزة صوراً قاسية. فلسنا جوليات، بل كنا داود وما زلنا داود ونحن ندافع عن أنفسنا كداود».
وداود من حقه أن يقتل الفلسطينيين حتى لو كانوا أطفالا. فمن أجل بقاء نسل داود يجب القضاء على نسل فلسطين. وهذه ليست بشاعة. إنها الأخلاق الجديدة.
www.assafir.com
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه