استغل تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» - «داعش»، منذ بداية تمدده بين سوريا والعراق في العام 2012، مجمل العناصر التي تربط هذين البلدين
محمد جمال
استغل تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» - «داعش»، منذ بداية تمدده بين سوريا والعراق في العام 2012، مجمل العناصر التي تربط هذين البلدين، على طول الحدود المصطنعة التي تبلغ حوالي 600 كيلومتر، وقد عمل التنظيم على تسخير جميع هذه العناصر المشتركة، الجغرافية والبشرية والموارد الطبيعية، بالإضافة إلى الروابط العائلية والقبلية المتداخلة، لمصلحة مشروعه الإقصائي فكراً ومنهجاً، حتى بات، بحسب تقديراته، قادراً على تأسيس دولة متكاملة الأركان.
ومن بين فصول تأسيس هذه الدولة المفترضة، استحداث «داعش» لـ«ولاية» جديدة باسم «ولاية الفرات»، تجمع بين مدن سورية وأخرى عراقية بهدف ما أسماه التنظيم المتشدد «كسر صنم الحدود في نفوس المواطنين»، وهي تضم مدينة البوكمال السورية في ريف دير الزور، وكلاً من هجين والقائم على الطرف العراقي.
وبعد سيطرته على حقول النفط في تكريت والموصل، ودير الزور السورية التي تعد امتداداً جغرافياً طبيعياً لمنطقة شمال العراق، عمل «داعش» على إقصاء مختلف المكونات الاجتماعية من هذه المناطق من أعراق ومذاهب وحتى أيديولوجيات. وبعد تفشي الخلاف مع قيادات «حزب البعث العراقي» المنحل، وأصحاب الطريقة النقشبندية، عمل التنظيم على طرد المسيحيين العراقيين من مناطق الموصل وسهل نينوى، كما يقوم بتهديد العائلات الكردية المقيمة في ضواحي المحافظة سعياً وراء إقصائها.
وتحولت الكنائس المسيحية في الموصل، في مشهد غريب عن عادات المجتمع العراقي إلى مآذن، كما تم نزع جميع شعارات الطائفة المسيحية عنها واستبدالها برايات تنظيم «داعش»، لتصبح بذلك فئة من سكان العراق الأصليين خارج أرضهم وقراهم التي نشأوا فيها.
وتعد الديانة المسيحية ثانية كبرى الديانات في العراق، وهي ديانة مُعترَف بها بحسب الدستور العراقي، بجميع مذاهبها البالغ عددها 14 مذهباً. وتتحدث الغالبية العظمى من العراقيين المسيحيين لغة بلادهم الأم أي اللغة العربية، فيما لا يزال البعض منهم يستخدم اللغة السريانية أو اللغة الأرمينية. كما أن أكبر كنيسة في الشرق الأوسط موجودة أساسا في مدينة بغديدا في محافظة نينوى، وهي كنيسة الطاهرة الكبرى.
وينتشر المسيحيون في كل المحافظات العراقية، لكن وجودهم يتركز في العاصمة بغداد، بالإضافة إلى أكبر تجمع سكاني للمسيحيين في منطقة سهل نينوى قرب الموصل في شمال العراق، عدا عن إقليم كردستان وبعض المدن الجنوبية.
وبحسب الإحصاءات العراقية الرسمية فإن عدد المسيحيين في العراق قبل العام 2003، كان يقدر بحوالي مليون وخمسمئة ألف شخص، إلا أنه تقلص بعد الغزو الأميركي للبلاد ليصل إلى أقل من خمسمئة ألف نسمة.
وتأثر المسيحيون كما غيرهم من المكونات العراقية بمجمل الأزمات التي توالت على البلاد، وقد سجلت أولى عمليات الهجرة المسيحية من العراق في مطلع القرن الحالي، بسبب مجزرة سميل التي وقعت في مدينة الموصل بحق أبناء الأقلية الأشورية، والتي دفعت عشرات الآلاف من أبناء هذه الأقلية للنزوح إلى سوريا.
ثم عادت ظاهرة الهجرة للظهور متأثرة بعوامل اقتصادية واجتماعية، خصوصاً بعد الحصار الدولي الذي فرض على العراق، وحرب الخليج الثانية، إلا أن وتيرتها تسارعت كثيرا في أعقاب غزو العراق في العام 2003 وما رافقه من انتشار للتنظيمات المتطرفة.
وكما تأثرت البنية المجتمعية العراقية سابقاً بالخضّات التي تعرضت لها البلاد، فإنّ اجتياح تنظيم «داعش» لمحافظتي الموصل ونينوى الشهر الماضي قد أتى بنتيجة كارثية على وجود العراقيين المسيحيين في هذه المناطق، ولعل ما يحصل في هذه المرحلة قد يكون من أخطر أنواع التهجير والإقصاء الفعلي لهذه الفئة، إذ باتت مدينة الموصل، وهي إحدى أكبر المدن التي يسكنها المسيحيون في العراق، شبه خالية من هذا المكون العراقي الأصيل.
وعكست حملة التهجير هذه جواً من الخوف والقلقعند المسيحيين العراقيين عامة، وسط مخاوف حقيقية من أن تؤدي أفعال التنظيم المتطرف الإقصائية إلى أوسع حملة تهجير ونزوح قد تنهي وجودهم بالكامل في هذه المناطق التي كانوا فيها تاريخياً.
وكان تنظيم «داعش» الذي فرض سيطرته على مدينة الموصل قد أعلن عن قراره تهجير «أتباع الديانة النصرانية» أو السماح لهم بالبقاء شرط دفع الجزية، ما دفع بآلاف المسيحيين إلى النزوح نحو إقليم كردستان.
وقد ضرب هذا الإعلان عرض الحائط بجميع الأصول والأعراف الاجتماعية العراقية، بالطلب من المسيحيين الخروج بأنفسهم من دون اصطحاب حتى أي شيء من ممتلكاتهم واعتبار عقاراتهم أملاكا لـ«الدولة الإسلامية» ومصادرتها.
ولفت ناشطون في مدينة الموصل إلى أن التنظيم بدأ بتغيير شامل لكل ما له علاقة بالشعارات الدينية المسيحية في المدينة. وقال أحد الناشطين لـ«السفير»، إن «مسلحي داعش بدأوا حملة لإزالة الصلبان من أعلى الكنائس، ونصبوا مكبرات صوت من على كنيسة مار افرام للسريان الأرثوذكس ليتم رفع الأذان منها».
ويقول الباحث المتخصص في قضايا الإرهاب جاسم محمد لـ«السفير» إن ما «تقوم به داعش كان متوقعاً، فهي تعتمد سياسة حركة «طالبان» في أفغانستان، بفرض تعاليمها على المجتمعات التي تسيطر عليها... كما أن لهذا التنظيم تجربة واضحة في سوريا».
ويضيف محمد أن «داعش في البدء، أي بعد دخوله الموصل الشهر الماضي، تمهل لكسب العشائر السنية وزعاماتها في العراق، وأعطى جملة ضمانات للمسيحيين، لكنه سرعان ما بدأ بحملات التهجير للإمساك بالأرض بعدما كرّس سيطرته عليها».
ورأى محمد أن «هذا الأمر سيثير الكثير من الخلافات داخل مدينة الموصل، خاصة مع بعض الجماعات المسلحة المتحالفة مع داعش. وقد بدأت منذ الآن مواجهات مع بعض البعثيين من القيادات الميدانية... ولا شك بأن الخلافات سوف تظهر أكثر فأكثر في المستقبل».
وكان «البعث العراقي» قد أكد في بيان له أن «جرائم داعش بدأت تتسع وتتفاقم، وآخرها تهجير الإخوة المسيحيين من مدينة الموصل بشكل يبعث على الأسف، وھو ما نرفضه تماما».
ويقول رئيس ديوان الوقف المسيحي في العراق، رعد جميل لـ«السفير» إن أكثر من 10 آلاف مواطن مسيحي نزحوا من مدينة الموصل منذ العاشر من حزيران الماضي.
ويوضح أن «ما تبقى من المسيحيين في الموصل نزحوا خلال اليومين الماضيين بعد المهلة التي منحهم إياها تنظيم داعش»، مشيرا إلى أن «العائلات المسيحية تعاني من أوضاع معيشية صعبة بعد سرقة كل ممتلكاتها وحظر رواتب الموظفين الرسميين».
من جهته، قال النائب العراقي يونادم كنا لـ«السفير» إن «الجرائم البشعة التي ارتكبها تنظيم داعش الإرهابي في الموصل لم تحصل منذ أربعة عشر قرناً من التعايش السلمي والشراكة بين المسلمين والمسيحيين في الشرق، فقد خرجت تصرفات داعش عن السنة النبوية والقرآن الكريم وعن كل القيم والأخلاق».
وأضاف أن على دول الجوار التي دعمت هذا التنظيم أن تكون على يقين «من أن هذه الجماعة عابرة للحدود، فإذا كانت النار اليوم لدينا فهي غداً تكون لديهم».
www.assafir.com
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه