هو فعل ذلك وفق معالجة محترفة: تطرق إلى عمليات التمويل ووسائل مكافحتها من قبل الأعداء، وبعض جمعيات المجتمع المدني الممولة من الغرب، كما تناول سهولة استدراج بعض الحالمين بالثراء السريع إلى فخ التعاون مع العدو
يمكن لتجربة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، ومخاض المقاومة والتحرير الذي انبثق عنها أن يشكلا منجماً للأفكار والأعمال الدرامية. وفقاً لهذا الزعم، يأتي مسلسل «ملح التراب» (نص جبران ضاهر، إخراج أياد نحاس، بطولة مهدي فخر الدين وعمار شلق وديامان بو عبود وكارول عبود وحسام الصباغ وحسان مراد ووسام فارس ومحمد علاء الدين وسليم علاء الدين وسعد مينا وشادي زيدان ومديحة كنيفاتي...)
ليكون الجزء الأخير في ثلاثية درامية بدأت من «الغالبون» وعبرت بـ«قيامة البنادق» على «المنار». وحدة الموضوع المستهدف درامياً فرضت على صنّاع العمل الجديد البحث عن مقومات تمايز على مستوى المقاربة والصياغة والرؤية الإخراجية. هكذا تأثر «ملح التراب» (مركز بيروت الدولي للإنتاج والتوزيع الفني) بما سبقه من خلال نزوعه الواضح للافتراق عنهما بحثاً عن تفرد منشود. من أبرز سمات العمل أنه يعترف بالتباين القائم حول التجربة النضالية، ويعيد الخلاف بشأنها إلى ما قبل التحرير في عام ٢٠٠٠.
هو بذلك يؤكد ما سبق طرحه عبر الحراك السياسي الواقعي بأنّ السلوك الكفاحي لتحرير الأرض لم يكن موضع إجماع يوماً. والأرجح أنه سيبقى مادة خلافية من دون أن يكون ذلك سبباً للتشكيك في مشروعيته.
فتح باب المناقشة حول مشروعية المقاومة عنصرٌ إضافيٌ في سجل المعالجة الدرامية للظاهرة الأبرز في التاريخ اللبناني المعاصر، لكنه ليس كافياً لإزالة نقاط التباين بشأنها. النقاش بدا محكوماً بضوابط لا تساعده في بلوغه الهدف المنشود. أصغى المتابعون إلى أصوات المعترضين، لكنهم لم يطلعوا على أنماط حياتهم، وأنساقهم السلوكية، لم يكن متاحاً بالتالي الاعتراف بهؤلاء المغايرين بوصفهم شركاء كاملي الأهلية. بدا الأمر أقرب إلى أصوات نشاز بالإمكان الإصغاء اليها، من دون منحها فرصة المشاركة الفاعلة والمؤثرة، في حين جرى تكريس نوع من التفوق المضمر لقيم المقاومة وقدرتها على الاحتواء.
تصوير البعد الاقتصادي في الصراع والانقسام المحلي حول المقاومة
من جانب آخر، تأرجح العمل بين الواقعية المباشرة التي تستنسخ معطيات معيشية صارمة، وبين التورية التي تحاذي الترميز. كان يمكن لمتابعه أن يصغي إلى الأدعية الدينية كما هي في مساجد الضاحية الجنوبية وحسينياتها، في حين كان يتعين عليه أن يمعن الفكر حتى يتنبه إلى أن النقاش بين الأخوين حسن (مهدي فخر الدين) وناجي سالم (وسام فارس)، حول سلاح الأول وخشية الثاني من أن يطاوله يوماً، هو نسخة درامية عن كثير من الصخب الذي يهيمن على المشهد اللبناني حيال سلاح المقاومة.
أيضاً هناك ما يمكن تناوله في هذا الإطار: الاعتراض على الأداء المقاوم جرى حصره في البيئة الطائفية الحاضنة له نفسها، ما يعني أن الخلاف يقتصر على تمايز بين أبناء البيت الواحد، ما يقود إلى الاستنتاج بأن بعض القضايا المفصلية عندنا تستعصي على المقاربة ولو كانت درامية. ثمة تيمة إضافية اعتمد عليها المسلسل في ابتكار معالم تمايزه، وهي تتعلق بإضفاء سمة أرستقراطية على مجتمع المقاومين. البطل حسن سالم ينتمي إلى عائلة ثرية بما يدعو إلى إعادة النظر في مقولة حصرية الكفاح بالفئات المسحوقة.
كذلك سعى «ملح التراب» إلى إخراج الأم الجنوبية من كادر المرأة التي لا تتقن سوى الدعاء لأولادها بالنصر، ليضعها في خانة الفعل المباشر عبر تقديم الدعم للنهج المقاوم. في المقابل، أبدى المسلسل قدراً ملحوظاً من التقشف الإنتاجي مقارنة بسابقيه. لم نجد الآليات العسكرية المحتشدة، ولم تطالعنا المعارك الحربية المحاذية لمثيلاتها الحقيقية. اختار أن يدخل في الصراع المخابراتي مع العدو، أي حرب العقول والأعصاب. هنا يمكن أن يسجل له تفاديه أحد المطبات الإيديولوجية التي تستسهل الأعمال المماثلة الوقوع فيها، أي تلك التي تصوِّر العدو بوصفه ضعيفاً مرتبكاً. حقيقة الأمر ليست كذلك، وليس من شأن تقديمه وفق هذه الصورة أن يخدم مناهضيه.
رسائل كثيرة حاول المسلسل تمريرها، هو نجح في بعضها وأخفق في أخرى: تناول التنسيق بين الدولة والمقاومة، وحاول إضفاء سمة تكاملية على العلاقة الثنائية. ما يمكن إضافته إلى ايجابيات العمل هو ذلك الإقحام المدروس للبعد الاقتصادي في الصراع.
هو فعل ذلك وفق معالجة محترفة: تطرق إلى عمليات التمويل ووسائل مكافحتها من قبل الأعداء، وبعض جمعيات المجتمع المدني الممولة من الغرب، كما تناول سهولة استدراج بعض الحالمين بالثراء السريع إلى فخ التعاون مع العدو، ولم تفته الإغراءات السياسية حيث أمكن للطامح السياسي أبو العز (سعد حمدان) أن يتحول لقمة سائغة في فم الحسناء الاسرائيلية سارة (مديحة كنيفاتي)، ظناً منه أنه بذلك يقترب من هدفه في الزعامة. لا بد من الإشارة إلى أنّ الحلقات الأخيرة تزامن عرضها مع العدوان الإسرائيلي على غزة، فترافقت مع أخبار عاجلة أسفل الشاشة، بما يشير إلى الصلة الوثيقة بين الواقع وبين المشهد المرئي. «مصادفة» لا يسعها أن تبقى خارج النقاش الدائر حول مشروعية المقاومة وضرورتها، وإن كانت لا تنتقص في المقابل من حيوية هذا النقاش، وأهمية الارتقاء به نحو قابلية الحسم الإيجابي.
في البدء كانت الأرض
حسن سالم (مهدي فخر الدين) مقاوم ينتمي إلى أسرة ميسورة. بهدف تمويه وجوده في بلدته الجنوبية شقرا، يضطر إلى تغيير اسمه إلى ابراهيم، مدّعياً العمل في مجال الزراعة. بين المقاوم والمزراع شبه لا يقتصر على الوزن الموسيقي وحده. الصبر سمة مشتركة بين الاثنين. كلاهما يبذل الجهد والعرق من دون أن تكون النتائج محسومة في نهاية المطاف. يمكن للمزارع أن يمضي كثيراً من الوقت في انتظار الموسم ليكتشف حينها أنه كان ينتظر سراباً، كما يمكن للمقاوم أن يحضّر طويلاً لعملية ضد العدو، وعندما تزف اللحظة المناسبة، يفاجأ بعبور غير متوقع لعائلة مدنية في المكان فيلغي الخطة، هذا ما يقوله المسلسل عبر أحد مشاهده.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه