لاتهام الأساسي هو أن المصرف ينفذ عمليات عبر شركات وهمية وعصية على فهم السلطات الأميركية، ومن بينها 4500 حوالة مالية عبر حسابات مراسلة في الولايات المتّحدة بلغت قيمتها 875 مليون دولار.
التهمة الفعلية التي وردت في تقرير وحدة مكافحة الجريمة المالية في وزارة الخزانة الأميركية، ضد مصرف FBME، هي أنه يُمارس الأعمال المصرفية من دون سلطة أميركية مباشرة. وهي تهمة كافية للقضاء عليه. الواضح في التجارب حتى الآن أن واشنطن لا تَعُدّ تبييض الأموال وتمويل الارهاب «جريمتين»، الا اذا كانا يتعارضان مع اهدافها.
منحت وزارة الخزانة الأميركية مصرف FBME ــــ أي بنك فدرال الشرق الأوسط ـــــ ذا الأصول اللبنانية، والحاضر بقوة في تانزانيا وقبرص، مهلة شهرين لدحض الاتهامات الموجهة إليه بتبييض الأموال واستغلال النظام المالي الأميركي لتمويل الإرهاب. ولكن لا داعي إلى الانتظار كثيراً، إذ بعدما أصدرت وحدة مكافحة الجرائم المالية في الوزارة (FinCEN) تقريرها عن البنك، المتضمن أدلة غامضة، سارعت السلطات النقدية القبرصية، التي تُشرف على معظم أعماله، إلى وضع اليد على فرعي المصرف في ليماسول ونيقوسيا، تمهيداً لبيعهما، كذلك فعلت السلطات التانزانية مع فرع المصرف الرئيسي في دار السلام.
تبقى إذاً فترة 60 يوماً لكي تعالج إدارة المصرف وضعيتها للوصول إلى خاتمة في القضاء الأميركي، وعلى مستوى العمليات التي يُديرها المصرف في تانزانيا. الاتهام الأساسي هو أن المصرف ينفذ عمليات عبر شركات وهمية وعصية على فهم السلطات الأميركية، ومن بينها 4500 حوالة مالية عبر حسابات مراسلة في الولايات المتّحدة بلغت قيمتها 875 مليون دولار.
ما هي تلك العمليات تحديداً؟ وهل اتهام المصرف بممارسة نشاط الصيرفة الخاصة، والتعامل مع رجل أعمال قريب من حزب الله كاف للقضاء عليه؟
الإجابة عن هذه التساؤلات تبدأ من حيث انتهت قضايا أخرى مشابهة لما يتعرض له مصرف «الأخوين صعب». فقد اتضح من التجربة في السنوات الست الماضية، وتحديداً منذ وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض، أن واشنطن تُعزّز قبضتها على النظام المالي العالمي عبر سد بعض الفجوات، مستخدمة مزاعم مكافحة الإرهاب وتبييض الأموال.
وقد تزامن وصول أوباما مع الأزمة المالية العالمية، ومع توجهات غربية للتضييق على الجنات الضريبية، وحتى على المكلفين الأميركيين ـــ ومن هنا ابتكار قانون «فاتكا» لفرض ضريبة الدخل على حاملي الإقامات والجنسية الأميركية.
هكذا تعرّضت مصارف أوروبية عملاقة مثل HSBC وBNP Paribas وStandard Chartered لحملات أميركية ممنهجة ولغرامات قاربت التسعة مليارات دولار في حالة المصرف الثاني.
يربط البعض بين الاهتمام بقبرص وثرواتها النفطية
وتبدو المصارف اللبنانية صيداً ثميناً في هذا السعي الأميركي. «جسمها لبّيس» نظراً إلى سهولة تخيّل الربط بين بعض ودائعها وأموال المغتربين اللبنانيين «المشكوك في انتماءاتهم الحزبية». بكلام آخر، لـ«حزب الله» قاعدة شعبية هائلة محلياً ودولياً، وكلما أودع فرد من تلك القاعدة أموالاً في مصرف معين، سيكون المصرف معرضاً للملاحقة. تماماً مثل الهبة الأميركية الشهيرة لقوى الأمن الداخلي، التي فرضت ألّا يستخدم أي عسكري أو جندي المعدات إذا كان قريباً أو مقرباً من شخص منظم في حزب الله.
حزب الله، و«شبكته المالية العالمية»، يبدو هو المستهدف إذاً في الحالة اللبنانية؟ غير أن الأمور أبسط من ذلك، إذ يبدو أن الخزانة، وتماماً كما الوضع مع قانون فاتكا، ترمي إلى شفط ما تستطيع شفطه عبر الابتزاز من أموال في الأجهزة المصرفية حول العالم.
بكلام آخر، تمتص الخزانة الأميركية الملايين من المصرف وزبائنه. ملايين تعدها من حقها لكونها سيّدة العالم. لذلك يجب ألا يُفاجأ أحد بانتهاء قضية المصرف تماماً كما انتهت قضية المصرف اللبناني الكندي، الذي أُسقطت الاتهامات بتبييض الأموال الموجهة إليه ورضي القضاء الأميركي بالحصول على أكثر من مئة مليون دولار غرامة.
إذاً بانتظار ما سيحدث خلال الشهرين المقبلين، من المهم العودة إلى نشاطات المصرف بين القارة السوداء والجزيرة المتوسطية. تفيد تقارير إعلامية صادرة من تانزانيا، نقلاً عن موظفين وعاملين في القطاع المصرفي، بأن اعمال المصرف لطالما كانت مثيرة للريبة. يتحدثون عن حقائب مليئة إما بالأموال أو المعادن الثمينة يحملها الزبائن المهمون (VIP) خلال توجههم إلى اجتماعات العمل في المصرف في إطار بروتوكولي وتنظيمي تحكمه السرية العالية.
قد يكون الكلام المسرب صحيحا، او جزءاً من حملة التضخيم بشأن صيت المصرف وطبيعة أعماله المشبوهة، غير أنها قد تكون أيضاً طبيعية وتعكس تخصص المصرف في الصيرفة الخاصة وخدمة نوع محدد من الزبائن.
فلنعالج التساؤل من مكان آخر: يكون الاخوان صعب منخرطين في أعمال مربحة وشرعية في مجال المعادن الثمينة في أفريقيا، ويعززان حضورهما لخدمة الزبائن عبر فتح الفروع ـــ مثل الفرع في منطقة موانزا الغنية بالمعادن. وقد يكونان منخرطين في «مخطط تبييض الأموال» الذي تزعم واشنطن وجوده.
بغض النظر عمّا إذا كان المصرف فعلاً متورطاً في أعمال مشبوهة، هناك مجموعة من المسلّمات التي تُصبح اتهامات بمجرد أن يُشعل فتيل المزاعم. مثل أن يهتم المصرف بزبائن خاصين، وأن يكون له زبائن مقربون من حزب الله، أو يدعمون خطه السياسي؛ فهذا المعطى يُعد تهمة أميركياً، فيما هو نشاط عادي من المنظور اللبناني وحتى الأوروبي.
كذلك، معروف أن المصارف اللبنانية عموماً تلاحق زبائنها جغرافياً، على الرغم من ثورة الاتصالات والصيرفة الإلكترونية. وفي هذه الحالة يُعد إجراءً طبيعياً أن تقترب المصارف اللبنانية من زبائنها من موانزا إلى كاليفورنيا.
ومصرف FBME يُعدّ آخر ضحايا الماكينة المالية الأميركية، وتؤكد تجربته مرة جديدة أن «تبييض الأموال» ـــ إذا كان قائماً ومثبتاً ـــ يبقى نشاطاً أبيض حتى صدور القرار بتجريمه. وفي هذه الحالة، فإن الأدلة تبقى مفقودة، والمصرف يواجه الاتهامات بصك براءة من شركة محاسبة هي ابنة النظام نفسه الذي تستند إليه الولايات المتّحدة في اتهاماتها.
مثلاً في قبرص، حيث تتركز معظم أعمال المصرف، هناك تضارب هائل في موقف السلطات: نيقوسيا تحاول اليوم تطبيق الدروس بعد تعثرها المالي أخيراً وحصولها على قرض بعشرة مليارات دولار، وإحدى خطوات «الحفاظ على الاستقرار المالي» في هذا المجال ـــ بحسب تصريحات المسؤولين القبارصة ـــ حل المصرف وبيعه. ويتناسى المسؤولون أن الجزيرة كانت تعي تماماً طبيعة أعمال المصرف وعلاقاته مع رجال الأعمال من موسكو إلى دار السلام. برغم ذلك، وفي أصعب لحظاتها المالية، قبل ست سنوات، لم تجد قبرص من يسندها سوى هذا المصرف ورجال الأعمال الروس.
اليوم، تربط أكثر من وجهة نظر تحليلية بين الاهتمام الغربي المستجد بقبرص، وثرواتها النفطية المكتشفة حديثاً؛ الثروات نفسها التي تمتد تحت مياه المتوسط إلى المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية. وإذا حصل فعلاً وتضخمت المصالح الأميركية في المجالين المالي والنفطي في حوض المتوسط، فإنّ مفاجآت كثيرة مقبلة تُعدّها وزارة الخزانة.