وهزئ من ادعاء الجيش بأن منع الصحافيين الإسرائيليين من مرافقة الدبابات لدى توغلها في القطاع جاء حرصاً على سلامتهم وقال إن «الاعتبارات الحقيقية لاستبعادهم ليست ذات صلة بسلامتهم
في الحرب الإسرائيلية الدائرة على غزة، لم تصمت أقلام الصحافيين عندما تدوّي المدافع، كما فعلت في الحروب السابقة، إنما تجنّدت وسائل الإعلام المطبوعة والمسموعة والمرئية، باستثناء صحيفة «هآرتس»، طوعاً وبكل قوة للحرب ولتبرير كل قرارات الحكومة وتبني بيانات الجيش من دون سؤال أو استفسار حول صدقيتها.
ويثير هذا الموقف جدلاً بين صحافيين يساريين يرون أن «الصحافة خانت الأمانة»، كما يقول صاحب صحيفة «هآرتس» عاموس شوكن، وسائر الصحافيين الذين يرون وجوب التجند في وقت الشدائد للادعاء ذاته بأن الجيش هو «جيش الشعب» والجنود «هم أبناؤنا» وليس الوقت الآن لتوجيه أي سؤال أو انتقاد، بل يجب دعم المعركة بلا أي تحفظ، سواء من خلال عناوين الصحف لـ «رفع المعنويات» أو التعليقات لكبار المحللين البعيدين من ميدان المعارك الذين يتغذون من بيانات الجيش أو من خلال المساهمة الفعالة في حملات توفير الطعام والهدايا للجنود.
ويعتبر الصحافي المخضرم رفائيل مان أن قرار الجيش استبعاد المراسلين العسكريين من ميدان الحرب، حالَ دون ان ينقلوا الصورة الصحيحة للمتلقي الإسرائيلي. وقال إن ما يحصل هو ظاهرة خطيرة على حرية الإعلام في إسرائيل. وهزئ من ادعاء الجيش بأن منع الصحافيين الإسرائيليين من مرافقة الدبابات لدى توغلها في القطاع جاء حرصاً على سلامتهم وقال إن «الاعتبارات الحقيقية لاستبعادهم ليست ذات صلة بسلامتهم، إنما الحقيقة تكمن في رغبة قيادة الجيش في إدارة الإعلام والسيطرة على الرسائل المقدمة للجمهور، مباشرة منها لإدراكها أن الإعلام الإسرائيلي يتماهى مع كل ما يقدمه، خصوصاً في أزمان الطوارئ.
وكان الجيش سمح يوم الجمعة الماضي، فقط في اليوم الثامن العشر للحرب لممثلين عن وسائل الإعلام العبرية بدخول القطاع على متن دبابات ليأتي هؤلاء بقصص عن بطولات قادة الفرق والألوية المختلفة بغية رفع المعنويات ونقل صور تتيح للحكومة والجيش الادعاء بتحقيق إنجازات في هذه الحرب...
وتابع مان أن المحللين في قنوات التلفزة والإذاعة والصحف أكثروا من الثرثرة التي اعتمدت أساساً روايات الجيش وبياناته، «وعلى رغم أن المعركة تدور على بعد كيلومترات قليلة من حدود إسرائيل، مسافة دقائق، لكن على شاشاتنا يبدو أنها تدور في جزر فوكلاند البعيدة، وبدلاً من أن يكون المراسلون العسكريون الإسرائيليون في قلب المعركة لنقل الحدث كما تراه عيونهم، فإنهم يجلسون في الاستوديوات يثرثرون ويحللون ويرددون تقارير أوجزها لهم المتحدث بلسان الجيش وضباط كبار ونشروا صوراً التقطتها الطائرات الحربية من الجو لصواريخ أُلقيت أو قنابل ذكية، أو صوراً بعثها لهم من جنود تم تأهيلهم من جانب قيادة الجيش لتزويد الإعلام «ذخيرةً في الحرب الإعلامية». وأردف أن صناع القرار سعوا في الواقع ليس إلى تزويد الجمهور بالمعلومات إنما لبلورة وعيه وتعزيز ذاكرته وخدمة ماكنة الدعاية، أي بكلمات أبسط إلى غسل دماغ الإسرائيليين لنيل تعاطفهم.
وأضاف أن إسرائيل نقلت عملياً نظرية الإعلام هذه عن البنتاغون الذي استخدمها في حرب الخليج الأولى وعرفت News) Management) إدارة الأخبار من خلال الإيجاز اليومي الذي قدمه الجنرال نورمان شفارتسكوف بعيداً من ميدان الحرب. وذكّر مان بأن تجارب الماضي أثبتت أن هذه الاعتبارات دفعت بالحقيقة إلى الهامش.
واستذكر أيضاً أن استبعاد المراسلين الإسرائيليين عن ميدان الحرب الحالية في غزة يعيد إلى الأذهان ما حصل مع إقامة إسرائيل عندما برر مؤسسها ورئيس حكومتها الأول ديفيد بن غوريون رفضه مرافقة الصحافيين للمعارك بأنهم قد يتعرفون إلى نقاط الضعف في الجيش ويكشفون عيوباً في أدائه «يفضَل عدم نشرها للجمهور خشية أن يستفيد منها العدو». واقترح الكاتب أن يكون قرار المرافقة من عدمه بيد الصحافيين أنفسهم، لا الجيش، «إذ لا أفضل من رؤية الواقع لنقل صورة المعركة، ويمكن فعل ذلك بعد إخضاع التقارير للرقابة العسكرية».
ويقول المعلق العسكري لموقع «واينت» رون بن يشاي الذي سبق أن غطى معارك كثيرة من أرض الميدان: «مرةً كنا نعرف الكثير ونقلل الكلام... اليوم نعرف القليل لكننا نتكلم أكثر». وأضاف أن الصور التي ينتقيها الجيش ليس في وسعها مجاراة الصور الصعبة للمنازل المهدومة والأطفال المصابين والعائلات المشردة التي يبثها الجانب الآخر».
وكتب محرر موقع «العين السابعة» الذي يرصد وسائل الإعلام الإسرائيلية عوزي بنزيمان ان التجربة أثبتت أنه في أوقات الحروب والطوارئ ساهمت تقارير الصحافيين التي كشفت الحقيقة مساهمة كبيرة وربما حاسمة في قدرة الدولة على تشخيص الأخطاء والعيوب والتغلب عليها».
وانتقد بنزيمان قرار زملائه الصحافيين دعم سدنة الدولة بالمطلق وقال إن ذلك لا يخلو من الإشكاليات ويتعارض وطبيعة الإعلام والدور الملقى عليهم من مراقبة سلوك القادة وانتقادهم، فضلاً عن أنه يتعارض والمهمة الرئيسة المتوقعة من الإعلام وهي نشر الحقيقة من دون تجميلها، و «من دون ذلك، لن يكون سجال عام حول تصرف القيادة خلال المعركة والحكم على صواب قرارها والتأثير في المسار الذي يقود الدولة نحوه».
ويبرز التباين في التغطية بين صحيفة «هآرتس» اليسارية من جهة، وسائر كبرى الصحف («يديعوت أخرونوت» و «يسرائيل اليوم» و «معاريف») التي تتنافس في ما بينها من تكون أشد ولاءً للجيش وتحافظ على معنويات عالية للجمهور من خلال ما يسمى «التضامن القومي» والتماهي الكلي مع قرار شن الحرب وأهدافها كما أعلنتها الحكومة وجددها الجيش.
وفيما تصر «هآرتس» على التغريد خارج السرب وعلى أن يتضمن عنوانها الرئيس يومياً عدد الشهداء الفلسطينيين الذي تغفله سائر الصحف وصوراً من قلب القطاع وصفحات المقالات الحرة وتحليلات خبراء عسكريين يرفضون السير مع القطيع فينتقدون عند الضرورة الجيش فيما تطالب افتتاحياتها بوقف النار، تقرأ في «إسرائيل اليوم» أو «معاريف» أو «يديعوت أخرونوت» عناوين ومقالات داعمة للحرب وصوراً للجنود على دباباتهم أو صوراً التقطتها الطائرات الحربية وهي تقصف مواقع في القطاع منها على سبيل المثال: «إسرائيل الجميلة والقوية» فوق صورة جنود يتوغلون في غزة، و «إسرائيل تعانق جنودها في غزة»، و «على رغم الألم في موت الجنود، إسرائيل ترفع رأسها عالياً»، و «معنويات قوية»، و «ممنوع وقف الضرب»، «وحان دحر حماس» و «الحسم مطلوب». وتفرد كل منها صفحة يومياً لعلَم إسرائيل لتأكيد الدعم الشعبي للجنود، أيضاً من خلال مشاركتها شركات تجارية في تقديم حلويات أو هدايا للجنود.
ودفعت صحيفة «هآرتس»، التي تصر على ألا تكون موالية حتى وقت الحرب، ثمن مواقفها والمقالات الجريئة للصحافي البارز فيها جدعون ليفي فألغى مئات القراء اشتراكاتهم السنوية فيما يتعرض ليفي لتهديدات متواصلة بإيذائه جسدياً، ما حدا بصاحب الصحيفة إلى استئجار خدمات حارس شخصي يرافق ليفي في تحركاته.
وكان ليفي، الذي ينشر أسبوعياً منذ أكثر من عشرين سنة قصصاً عن مآسي الفلسطينيين تحت الاحتلال، أشعل سجالاً نارياً حين انتقد الطيارين الإسرائيليين الذين يلقون بأطنان المتفجرات على المدنيين، ووصفهم بـ «الطيارين السيئين المنتشين الذين لا ينظرون الى عيون ضحاياهم في غزة». وكتب أنه يود أن يلتقي الطيار الذي ضغط زر الموت ليسأله كيف نام الليل «وهل رأيت، على شاشة التلفاز أيضاً لا بالمنظار فقط، صور القتل والدمار الذي أحدثتَه؟ وهل رأيت الجثث المهشمة والجرحى النازفين والأولاد المذعورين والنساء المرعوبات والدمار الفظيع الذي زرعته من طائرتك المتطورة؟ إن كل ذلك فعل يديك يا أيها الطيار الصالح».
وأثار مقاله وإصراره في مقالات تبعته على كشف جوانب أخرى من الحرب حفيظة أقطاب الدولة وإعلاميين والشارع اليميني المتطرف الذي لا يريد سماع رأي مغاير، ليبرالي. ولم يتردد وزراء بارزون في توجيه انتقادات شديدة اللهجة لليفي ونعته بـ «الخائن» و «عدو إسرائيل» فيما امتلأت صفحات «الفايسبوك» بالدعوات لقتله، على تجرؤه وصف من يعتبرهم الإسرائيليين «الرجال الأفضل الصالحين للطيران» أنهم يقومون بأبشع وأقسى الأفعال «ويجلسون في غرف الطيارين ويضغطون على أزرار كأنهم في لعبة حرب فيصرفون أمور الحياة والموت، ويرون من عليّهم فقط نقاطاً سوداً تهرول في ذعر بحثاً عن ملاذ... وما إن يوجه السهم الأسود الى الهدف حتى يرتفع دخان اسود... ليعودوا بعد ذلك الى الطلعة التالية... إنهم لا يرون ولم يروا قط بؤبؤ العيون ودم ضحاياهم الاحمر. هم أبطال على ضعفاء... وعلى عاجزين لا يملكون سلاحاً جوياً ولا دفاعاً جوياً بل حتى طائرة ورقية».
ودافع صاحب الصحيفة عاموس شوكن عن ليفي غير آبه بقرار شركات تجارية حجب الإعلانات عن الصحيفة والتسبب في خسارة ملايين الدولارات في السنوات الأخيرة «لأننا صحيفة يسارية»، وقيام مئات المشتركين بإلغاء اشتراكاتهم، وقال إنه لا يعتزم تقليد سائر الصحف اليومية التي تتعاون مع شركات تسويق الأغذية لتزويد منتجاتها إلى الجنود، «وهذه ليست من مهمات وسائل الإعلام».
وأضاف أن صحيفته تصر على الحفاظ على قيَمها، منها وجوب أن يعرف الإسرائيلي عن حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال. وقال: «صحيح أن الصحف الأخرى تمتنع عن ذلك خشية إغضاب قرائها وهي بذلك تخون الثقة، لكننا لن نغير هذه التغطية التي نؤمن بحيوتها، ونحن نؤمن أنه أيضاً في زمن الحرب وسقوط صواريخ على إسرائيل يجب مناقشة كل الأسئلة والاستفسارات».
ونفى شوكن أن يكون ليفي ادعى في أي من كتاباته أن إسرائيل نازية، وقال إن ما ليفي كتب أنه يلمس سمات فاشية في الجو العام، «وأعترف أنني أنا أيضاً أشعر ذلك».
محرر موقع «واينت» خرج عن القاعدة ولم ينشر بتوسع صور الجنود القتلى وقصص حياتهم كما فعلت سائر وسائل الإعلام. وبرر ذلك بالقول إن المطلوب هو التمحور في العملية العسكرية على أن تكون المسألة العاطفية المتعلقة بجنود قتلى هامشية «عندما تدوّي المدافع».
وبرر محرر موقع «واينت» على شبكة الانترنت (التابع لـ «يديعوت أخرنوت») خروجه عن القاعدة بعدم النشر بتوسع صور الجنود القتلى وقصص حياتهم كما فعلت سائر وسائل الإعلام، بالقول إن «المطلوب هو التمحور في العملية العسكرية على أن تكون المسألة العاطفية المتعلقة بجنود قتلى هامشية «عندما تدوّي المدافع».