على مدى الأشهر الأربعة الأخيرة سمح البنك المركزي بتراجع الدينار أمام اليورو والدولار، وهو ما يضع نهاية لأشهر تدخل فيها البنك للحفاظ على إستقرار العملة الوطنية أو حتى رفعها.
يقوض ضعف الدينار التونسي القوة الشرائية لمواطني البلاد، ويعيد إلى الأذهان ذكرى الأزمة الاقتصادية التي نشبت بعد انتفاضة العام 2011.
لكن إنخفاض قيمة العملة قد يشير هذه المرة إلى مستقبل مالي أقوى. وعلى مدى الأشهر الأربعة الأخيرة سمح البنك المركزي بتراجع الدينار أمام اليورو والدولار، وهو ما يضع نهاية لأشهر تدخل فيها البنك للحفاظ على إستقرار العملة الوطنية أو حتى رفعها.
وينطوي إنخفاض قيمة العملة على مخاطر إقتصادية وسياسية في وقت تستعد فيه البلاد لإنتخابات برلمانية في اُكتوبر/تشرين الأول، ورئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني، وهي انتخابات تأمل تونس أن تكمل عملية إنتقال إلى الديمقراطية شهدت عنفا في بعض الأحيان.
لكن تراجع العملة قد يجلب فوائد كبيرة لتونس في المدى البعيد، مثل توفير فرص عمل من خلال تحفيز الصناعات التصديرية ،وتشجيع المستثمرين الأجانب على ضخ أموال إلى البلاد.
وقال سليم فرياني، الرئيس التنفيذي لشركة «أدفانس اميرجنغ كابيتال» ومقرها لندن ان البنك المركزي بات أكثر استعدادا على ما يبدو في الأشهر الأخيرة للسماح بإنخفاض الدينار بسبب العجز التجاري وتراجع إحتياطيات النقد الأجنبي.وأضاف أن إنخفاض قيمة العملة محدود ومحكوم، وينبغي النظر إليه في سياق السياسات الإقتصادية العملية التي تتبناها حكومة الكفاءات، التي عينت في يناير/كانون الثاني، مثل خفض دعم الوقود والغذاء.
وتابع فرياني وهو تونسي تستثمر شركته في الأسواق الناشئة والمبتدئة في أنحاء العالم «ثمة ضوء في نهاية النفق».وأحجم كثير من البنوك المركزية في شمال أفريقيا عن السماح بإنخفاض عملاتها منذ قيام إنتفاضات الربيع العربي في 2011، خشية نزوح روؤس الأموال والتضخم اللذين قد يؤججان التوترات الإجتماعية. وإذا نجح الإنخفاض المحكوم لقيمة العملة التونسية في تعزيز إقتصاد البلاد فقد تحذو حذوها دول أخرى.
* إنخفاض قيمة العملة
تدخل البنك المركزي التونسي بقوة لدعم الدينار في أعقاب الإنتفاضة من خلال بيع العملة الصعبة، رغم أنه تمكن فقط من إبطاء معدل الإنخفاض دون إيقافه.وإستنزف التدخل إحتياطيات البلاد من النقد الأجنبي التي إنخفضت إلى 10.39 مليار دينار فقط (6.08 مليار دولار بسعر الصرف الحالي) أو ما يغطي واردات 93 يوما في أواخر أبريل/نيسان، مقارنة مع احتياطيات تغطي 102 يوم قبل عام.
ووصف محافظ البنك المركزي التونسي الشاذلي العياري تراجع الإحتياطيات بأنه «خطير».ويبدو أن هذا التراجع أدى إلى إتخاذ قرار بتقليص التدخل والسماح بإنخفاض محكوم للدينار. وبدأت العملية في أوائل أبريل وأدت إلى إنخفاض العملة التونسية من 2.17 دينار لليورو إلى مستواها الحالي البالغ 2.30 دينار. ونزل الدينار أمام الدولار إلى 1.71 من حوالي 1.57 دينار للدولار.
وامتنع مسؤولو البنك المركزي عن التعليق علنا على سياسة سعر الصرف نظرا لحساسية المسألة.لكن إنخفاض العملة يتزامن مع إصلاحات لسوق الصرف نوقشت مع صندوق النقد الدولي، الذي وافق في يونيو/حزيران 2013 على إقراض تونس 1.74 مليار دولار في إطار برنامج مدته عامان.
وفي مارس/آذار إستحدثت السلطات منصة للتداول الإلكتروني، وأسست نظاما للبنوك الصانعة للسوق، باعتبارهما سبيلين للسماح بتحرك أسعار الصرف بمرونة أكبر وفقا للعرض والطلب، بدلا من هيمنة معاملات البنك المركزي عليها.
وتعهد المركزي التونسي في رسالة إلى صندوق النقد الدولي في أواخر أبريل باتخاذ خطوة أخرى لتحقيق مزيد من المرونة في السوق قبل نهاية هذا العام من خلال طرح عطاءات اُسبوعية للعملة الصعبة.وقال ان التدخل حاليا يشكل نحو 30 في المئة فقط من التعاملات في سوق الصرف مقارنة مع 50 في المئة قبل شهرين فقط.
ويبدو أن البنك المركزي يعتمد على مستويات أسعار الفائدة بدرجة أكبر من اعتماده على التدخل للحيلولة دون إنخفاض قيمة الدينار بشكل مفرط. ورفع البنك سعر الفائدة الرئيسي في يونيو/حزيران إلى 4.75 في المئة من 4.5 في المئة، وهي ثاني زيادة في ستة أشهر.
ولقي التحول في سياسة العملة قبولا عاما من صندوق النقد الذي أصدر بيانا في يوليو/تموز يحث فيه السلطات التونسية «على الإستمرار في تعزيز إحتياطيات النقد الأجنبي، بما في ذلك من خلال زيادة مرونة سعر الصرف.»
* تكاليف وفوائد
ولم يتضح إلى أي مدى سيصل إنخفاض الدينار. وكان البنك المركزي قد قال في بيانه في أواخر أبريل انه يعتقد أن الدينار أعلى من قيمته الحقيقية بنحو سبعة في المئة، وهو ما يعني ضمنا أنه ينبغي أن يستقر عند نحو 2.39 دينار أمام اليورو.
من ناحية اُخرى قد يكون من الصعب وقف تراجع العملة ما دامت تونس تعاني من عجز كبير في تجارة السلع والخدمات، والذي يتوقع صندوق النقد أن يصل إلى 3.1 مليار دولار، أو 6.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام.ولا يرحب الكثير من التونسيين العاديين بإنخفاض قيمة الدينار إذ يقلص قيمة مدخراتهم بالعملة الصعبة ويزيد معدل التضخم الذي ارتفع إلى 5.7 في المئة في يونيو/حزيران.وقالت وسيلة بنت صالح (40 عاما) وهي موظفة في شركة نقل في العاصمة التونسية «يدفع المواطنون ثمن إنخفاض الدينار. فالدينار ليست له قيمة الآن مع ارتفاع الأسعار».
وأضافت أن بعض أنواع العطور اختفت من المتاجر مع ارتفاع تكاليف الإستيراد بسبب إنخفاض قيمة العملة.وقال معز العبيدي، الخبير الاقتصادي والعضو السابق في مجلس إدارة البنك المركزي، ان إنخفاض الدينار قد يكون «كارثيا» وإنه ينبغي للسلطات إتخاذ مزيد من الإجراءات لدعم العملة بتقليص واردات السلع الترفيهية مثل السيارات ومكافحة التهريب.
لكن ظهرت في الاُفق علامات تشير إلى أن إنخفاض قيمة العملة يساهم بالفعل في زيادة إحتياطيات تونس من النقد الأجنبي، والتي إرتفعت إلى 12.09 مليار دينار، أو ما يغطي واردات 108 أيام بحلول نهاية يوليو وفقا للموقع الإلكتروني للبنك المركزي.
ويرجع هذا التعافي – على الأقل في جزء منه – إلى المساعدات الخارجية، حيث أودعت الجزائر 100 مليون دولار لدى البنك المركزي التونسي في مايو/أيار، لكن بعض الأموال الخاصة ربما بدأت تعود إلى البلاد أيضا.وصعدت سوق الأسهم بنسبة خمسة في المئة منذ نهاية أبريل.
وربما تكون تونس في وضع يتيح لها الإستفادة من سعر صرف تنافسي جديد، إذا زادت وتيرة التعافي الاقتصادي التدريجي في أوروبا وعزز هذا الطلب على صادراتها.
هذا التحول في السياسية النقدية التونسية تراقبه عن كثب دول اُخرى في شمال أفريقيا تعاني من عجز خارجي كبير وتحتاج لجذب مزيد من الإستثمارات الأجنبية، لكنها لم تجرؤ حتى الآن على السماح لعملاتها بالإنخفاض.فعلى سبيل المثال حافظت مصر إلى حد بعيد على إستقرار الجنيه خلال السنة الأخيرة، وأنفقت مساعدات أجنبية بمليارات الدولارات لتحقيق ذلك. وحال المغرب دون تراجع كبير في سعر صرف الدرهم، رغم أن صندوق النقد يحثه على زيادة مرونة أسعار الصرف.
وقال جيسون توفي، الاقتصادي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط لدى «كابيتال إيكونوميكس» في لندن، ان إنخفاض قيمة الدينار التونسي قد ينظر إليه بطريقة ما كعلامة على الثقة، وليس الفشل الإقتصادي، في الوقت الذي تتصدى فيه البلاد لمشكلة رئيسية في السياسة الإقتصادية.وأضاف «قد تتخذ دول أخرى في المنطقة مثل مصر نفس القرار في نهاية المطاف» مضيفا أن السلطات المصرية ربما تتخذ إجراء بخصوص عملتها بعد الإنتخابات البرلمانية المتوقعة في نهاية 2014.