أخفق التكفيريون في سوريا، فتقدموا فجأة في العراق. لم يفلحوا في الهيمنة على الرمادي، فاحتلوا على حين غفلة نينوى. لم يتسنَّ لهم إعلان الدولة في الانبار، فأقاموها في الموصل. اليوم، انسحب هؤلاء من عرسال
توقفت المعركة بين المسلحين والجيش اللبناني، في عرسال ومحيطها، لكنها لم تنته، فيما الجميع يترقب اتساع دائرة الخطر التكفيري الذي يتهدد لبنان.
فالتسوية التي ادت الى وقف اطلاق النار كانت أقرب الى التوافق الضمني على نقل المعركة الى مكان آخر وإرجائها الى وقت لاحق.
وبمقدار ما شكلت الوساطة «العلمائية» مخرجا موقتاً لتلافي معركة قابلة للتأجيل، فإن حالة اللاحسم وضعت لبنان على سكة حرب طويلة مع آلاف من المسلحين الذين يمتهنون القتل وينشدون الخراب. خطورة ما تمخضت عنه الواقعة العرسالية انها انتقلت بالصراع مع «داعش» وأخواتها من المطاردة الأمنية الى الجبهة العسكرية المفتوحة، ومن العمل على منع العمليات الانتحارية الى العمل على منع الاحتلال التكفيري لأكثر من منطقة لبنانية.
الخلاف بين جماعتي «النصرة» و«داعش» ساهم في تجنيب عرسال معركة طويلة الأمد. الاولى خرجت من البلدة لانها لا تريد ان تخوض معركة في ظروف لا تفضي بها الى اقامة الامارة، وفي توقيت لم تختره هي بل اختارته «داعش» انتقاما لاعتقال احد امرائها من قبل الجيش اللبناني. أما هذه الأخيرة فلم يكن من مصلحتها الاستمرار في المعركة منفردة في جغرافية محاصرة وبيئة معادية. لقد خرج المسلحون من عرسال وهم يعدون العدة الى معركة أخرى. بالمقابل، فإن الجيش الذي اوقف المعركة حماية للمدنيين وحفاظا على العسكريين المعتقلين، بات متحضرا الى مواجهة دائمة، ان لم يكن في عرسال وأزقتها، ففي جوارها والجرود المحيطة بها، أو في أي مكان آخر من لبنان.
يحتاج لبنان الى استراتيجية دفاعية لمواجهة هذا الموت القادم من الشرق. من الآن فصاعداً، لا بد من تعامل اللبنانيين مع المعطى التكفيري بوصفه العنصر الأكثر خطرا على الواقع الداخلي المأزوم. ما بعد المعركة العرسالية يختلف عما قبلها ويستدعي نمطا آخر من التعامل مع الاستحقاق التكفيري الداهم. المعركة هذه يجب أن تضع النقاط على الحروف في أمور عدة، منها ضرورة تخطي الاختلاف على مسببات تواجد التكفيريين في لبنان الى التوافق على كيفية التصدي لهم والتعامل معهم.
ومنها ايضا، الاعتراف بأن خطر المسلحين يتهدد لبنان برمته ولا يقتصر على فئة دون اخرى. والأهم من ذلك كله، الاستعداد للتعامل مع الوجود التكفيري في لبنان، لا بوصفه مقتصرا على الخلايا النائمة او الناشطة، بل بما هو ظاهرة عسكرية متهورة لا ينفع معها اعتماد صيغة اللاغالب واللامغلوب.
من حيث المقدمات، لم تخرج المعركة العرسالية عن الحراك التكفيري العام الذي تشهده المنطقة. لكن من حيث النتائج، فإن هذه المعركة كشفت أن الزحف التكفيري ليس فعلا غير قابل للمساومة وليس مداً لا تمكن مواجهته. وكشفت أيضا أن ما يصح في سوريا والعراق قد لا يصح في لبنان الذي لا مكان فيه لدولة الخلافة على طريقة الرقة أو الموصل. يدل على ذلك قبول التكفيريين، لاول مرة منذ حراكهم في المنطقة، الخروج من منطقة يسيطرون عليها وفق منطق التسوية، وبعيداً من منطق القتال حتى الرمق الأخير.
قبل الآن، أخفق التكفيريون في سوريا، فتقدموا فجأة في العراق. لم يفلحوا في الهيمنة على الرمادي، فاحتلوا على حين غفلة نينوى. لم يتسنَّ لهم إعلان الدولة في الانبار، فأقاموها في الموصل. اليوم، انسحب هؤلاء من عرسال، فالى اين سيتمددون غدا، وأين ستكون معركتهم المقبلة؟