أهالي شحيم ملتفون حول الجيش الذي يحتضن العشرات من أبناء منطقتهم. يرفضون الإرهاب والتطرف، رغم تنوع انتماءاتهم الحزبية.
لا شيء سوى الترقب والقلق يسود منزل سعيد درويش في شحيم، كبرى بلدات إقليم الخروب. الوالد الذي أثقله المرض حتى أقعده في كرسيٍ متحرك، لا سؤال له اليوم إلا عن ابنه "وائل". والأم تلوّعها الأنباء التي وصلتها عن همجية تعاطي الخاطفين مع أهالي عرسال، فتترقب أي خبر عنه، ملتزمة الصمت.
وائل درويش (22 عاماً)، المعيل الوحيد لأسرة من أب مقعد وزوجة ترعاه في مرضه، وأخ يصغره بخمس سنوات. عمل في "خدمة التوصيل" في أحد مطاعم بلدة شحيم. وفي نيسان/ أبريل الماضي جُنّد في صفوف الجيش اللبناني، قبل أن يتم تشكيله ضمن الكتيبة ٨٣ من اللواء الثامن، التي شاركت في المعارك ضد الجماعات الإرهابية في عرسال.
وهو واحد من بين خمسين عسكرياً في الجيش اللبناني (ضباطاً وعناصر)، من أبناء منطقة إقليم الخروب، شاركوا في المعارك ضد الجماعات الإرهابية في عرسال، والمختطف الوحيد من شحيم، التي جرح لها عسكري آخر برصاص القناصة في عرسال.
أهالي شحيم خرجوا في تظاهرة مؤيدة للجيش اللبناني، يوم الجمعة الماضي، وكانت الهتافات المتعاطفة مع وائل هي الأكثر صدى. وعاد أبناء البلدة لينفذوا اعتصاماً آخر في ساحة البلدة، يوم أمس الثلاثاء، مطالبين بإطلاق سراح ابنهم. فحملوا والد وائل بكرسيه على الأكف، وجابوا به ساحة الاعتصام. سعيد درويش العاجز عن الحركة، لم تعجز تعابير وجهه عن الإفصاح عن ما يعتريه من قلق على مصير ابنه، وهو قلق تعيشه البلدة بأكملها.
شحيم هي البلدة الأكبر في إقليم الخروب، عدد سكانها حوالي 50 ألف نسمة ، فيما تتراوح مساحتها 80 كم2، وتبعد عن العاصمة بيروت مسافة 47 كم. ورغم الانتماء الطائفي الذي يوحد أهالي البلدة (الطائفة السنية) إلا أنها غنية بتنوعها الفكري والسياسي. في شحيم، إسلاميون وعلمانيون. وفيها منظمون في أحزب عدة: تيار المستقبل، والجماعة الاسلامية، والحزب الاشتراكي، والمؤتمر الشعبي، إضافة إلى رابطة الشغيلة والتيار الوطني الحر، وجمعية المشاريع، وحزب البعث السوري أيضاً. وفيها مؤيدون لأحزاب أخرى كحركة المقاومة الشعبية، والتنظيم الشعبي الناصري، وحزب الله، إضافة إلى المستقلين. كما يوجد في البلدة تكتلات عائلية لها ثقلها كآل شعبان، وآل عبدالله، وآل فواز، وآل الحجار، وآل عويدات وغيرها من العائلات.
تستقبل البلدة اليوم أكثر من 300 عائلة سورية نازحة، حيث يتركز قسم منهم في البلدة القديمة، ويتوزع الآخرون بين مدرستين تحولتا إلى مركز إقامة دائم للعائلات النازحة، وبيوت عمدت العائلات لاستئجارها.
في زيارة للبلدة التقى فريق موقع المنار عدداً من نخب وأبناء شحيم. وفي طريقنا إلى عاصمة الإقليم مررنا في كترمايا ومزبود حيث كانت يافطات التأييد للجيش اللبناني وحدها المرفوعة.
أهالي شحيم ملتفون حول الجيش الذي يحتضن العشرات من أبناء منطقتهم. يرفضون الإرهاب والتطرف، لأن فيه إلغاءا وإقصاءا. بعد معارك عرسال، يقر أهالي البلدة أن لا أحد في لبنان بات بمنأى عن أن يكون هدفاً يضربه الارهاب. المتطرفون سياسياً كما المعتدلون في شحيم، يعبرون - جهراً أو سراً- عن هواجسهم من تمدد هذه الجماعات، التي لم تميّز في القتل فاستهدفت كل من يختلف عنها، ويستفيضون في الحديث عن دور الإعلام بما آلت إليه الأمور.
لن يسلم أحد من تمدد التطرف في لبنان"، يجزم ابن البلدة، الدكتور في العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية شفيق الحاج شحادة. ويضيف: "المدنيون الذين هوجموا في عرسال هم من أهل السنة، وشباب الجيش ومنهم أبناؤنا قاتلوا بعدما سمعوا مناشدات الأهالي".
"الإرهابيون غريبون عن عرسال وأهلها"، يقول صائب الحجار، أحد فعاليات بلدة شحيم. فأهل عرسال كما أهل اللبوة ورأس بعلبك لبنانيون مهمشون وفقراء، و"فقراء اللبوة هم من فتحوا بيوتهم واستقبلوا فقراء عرسال، المشاهد التي نقلتها الشاشات لم نسمع فيها أن أحداً منهم سأل عن طائفة الآخر".
الجيش: ضمان تنوعنا
والتعرض للجيش كان مرحلة أولية فيما لو نجحت فإن ما سيستتبعها أكثر خطورة، خصوصاً وأن تمدد الإرهاب كسر حدود الدول وفق كلام رئيس دائرة العلاقات العامة بالجامعة اللبنانية غازي مراد. "منطقة الاقليم لطالما جسدت التعايش المشترك وكانت خزاناً للطاقات العلمية والثقافية والعسكرية، فجمعت الكل". ورفض مراد منطق التشكيك بالجيش، متسائلا: "هل المطلوب التغطية على انهيار البلد؟ أو المطلوب أن نسكت عن قتل واستهداف ابنائنا من العسكريين فيما لو حملوا السلاح للدفاع عن أنفسهم؟"
الجيش يشكل ضمانة استقرار لبنان ووحدته، يقول د. شفيق الحاج شحادة. وشدد أن الجيش خط أحمر ممنوع المس به، لأن في انقسامه انهيارا للبنان والتنوع فيه. وأضاف "كل من يتحدث بلغة مذهبية يجب أن يُصنف ضمن خانة اللاوطني."
ويقول إمام مسجد حمزة الشيخ أحمد فواز أن الاقليم لا يمكن أن يرعى ارتكاب الجرائم باسم الدين ولن يشكل بيئة حاضنة لمرتكبي هذه الاعمال. وهذا ما كان يتخوف منه أهالي البلدة، حيث دفع النزوح غير المنتظم للسوريين إلى متابعة تحركات البعض ممن يجاهر بتأييده لجماعات متطرفة في سورية، بحسب ما نقله أهالي البلدة.
ويضيف الشيخ فواز أن استهداف المؤسسة العسكرية، التي تحتضن جزءاً كبيراً من أبناء الاقليم، ولّد ردة فعل انعكست تعاطفا قويا مع الجيش اللبناني.
كما يؤكد إمام مسجد حمزة: "نحن نؤمن بالتنوع والتعايش الذي ربينا عليه. ونرفض الاعتداء على الآخر، ولا نعتبره من الدين".
المزاج الشعبي في شحيم: ضد التكفير
بعد احداث عرسال، تغيرت أحاديث أهالي شحيم ونسبة تفاعل أهلها مع أخبار هذه الجماعات. يتحدث ابن البلدة الخمسيني، إيهاب أمين، أن كثيرين التزموا الصمت في الفترة الماضية حيال ما كان يتردد على وسائل الاعلام والانترنت من جرائم الارهابيين، لكن هؤلاء نزلوا إلى الشارع بعد ما جرى في عرسال وعبروا عن رفضهم لهذه الجماعات.
"أنا في العادة أتابع نقاشات أولادي مع أصدقائهم. 80% من شبابنا اليوم قلق من هذه الجماعات. مشاهد قطع الرؤوس باتت تصلهم على هواتفهم"، يقول صائب الحجار. ويتابع: "صرنا نسمع أن الإرهابيين لا يميزون في عمليات القتل، ويمارسون ارهابهم على الجميع. هذا لا يعني أن الانقسام السياسي ليس موجوداً في البلدة، لكن الخوف من هذه الجماعات يتشاركه الجميع."
"المزاج الشعبي في شحيم ليس على ما كان عليه قبل سنة وأكثر،" يؤكد الحجار، معللا: "لو لم يكن كذلك لرأينا واقع اقليم الخروب مختلفا تماما."
الموقف من الإعلام: نقمة ولوم
الخطاب السياسي التحريضي كما الدور الإعلامي سببان رئيسيان مهدا أرضية لاحتضان هكذا جماعات، هذا ما تقر به بشكل علني فئة من أهالي البلدة. السيدة خديجة المير ترى أن الاعلام كان يقدم تبريرات لجرائم هذه الجماعات، ولم يكن يسلط الضوء على ما ارتكبته من مجازر خارج لبنان، فلا يعرض مشاهد ذبح وقتل.
أما الطالب الجامعي زياد أمين يضع بعض قنوات الاعلام في مصاف الجماعات الإرهابية، "خصوصاً تلك التي قدمت لها منابر لتعبر عن أفكارها أو لتحرض ضد الجيش على مدار الأشهر الماضية تحت عنوان عرض الرأي الآخر. فثقافة القتل والموت ليست رأياً يحق له التعبير عن نفسه."
بالمقابل، لأبناء البلدة لوم على وسائل الاعلام التي غابت عن شاشاتها ومقابلاتها مواقف الصوت السني المعتدل، بحسب تعبيرهم.
"لو أُعطي هذا الصوت حقه لما سُكت عن تمدد هذا الفكر في عبرا، وعرسال والشمال"، يقول أحد شبان البلدة أنيس مراد.
"نريد أن تفتح المنابر أمام الزعامات السنية المعتدلة، الاعلام همش هؤلاء وركز على المحرضين، المواقف المستعرة أشعلت الشاشات، والحسابات نسبة المشاهدين، حتى وصلنا إلى ما شهدته عرسال".
تصوير: وهب زين الدين