تتَّجِـهُ الأنظارُ مجدداً إلى العاصِمةِ السعودية بعدَ أن توالت التسريباتُ الإعلاميةُ بشأنِ انجاز مصالَحَة بين رمزَي التسلُّط والفسادِ علي صالح وعلي محسن
عبدالله علي صبري*
تتَّجِـهُ الأنظارُ مجدداً إلى العاصِمةِ السعودية بعدَ أن توالت التسريباتُ الإعلاميةُ بشأنِ انجاز مصالَحَة بين رمزَي التسلُّط والفسادِ علي صالح وعلي محسن، في تطوُّرٍ يشكِّلُ - بحسَبِ المراقبين – حلقةً جديدةً من حلقات التآمُر على ثورة 11 فبراير التي عملت الرياضُ على إجهاضها، من خلالِ تشجيعِ الفُرقاءِ السياسيين (المؤتمر وَالمشترك) على التسوية السياسيَّة التي أخذت طريقَها إلى التطبيقِ بعد التوقيعِ على المبادَرة الخليجية في الرياض وبرعايةٍ من العاهل السعودي نفسِه.
وسعت المملكة إلى احتواء تداعيات "الربيع العربي" عبرَ التدخُّل العسكري المباشر في البحرَين، ثم من خلال رعاية المبادَرة الخليجية في الـيَـمَـن، والتدخل غير المباشر في مصر، ودعم الجماعات الإرهابية في سوريا، ما أدَّى بالفعل إلى بروز الثورات المضادة في هذه الدول واختلاط كثير من الأوراق السياسية في المنطقة، وُصُولاً إلى ابتعاث "داعش" في سوريا والعراق، والتهديد بانتقال هذا النموذج إلى كثير من الدول العربية.
وبالنسبة للـيَـمَـن فإن التدخُّلَ السعودي يُعَدُّ المدخلَ الرئيسَ والثابتَ لفَهم مجريات الحياة السياسية، حيثُ لا تكُفُّ الجارةُ الكبرى عن تسيير شؤون حديقتها الخلفية في صنعاءَ بما يخدُمُ مصالحَ الأُسرَة الحاكمة ومصالح الدول والجهات المرتبطة بالمليكة السعودية.
لأكثر من نصفِ قرن والرياض تفرضُ سياجاً محكماً على الـيَـمَـن "بشطريه" قبل وبعد الوَحدة ورغم اتفاقية الحدود وتهالك رُمُوز نظام صنعاء في سبيل إرضاء آل سعود، إلا أن الـيَـمَـنَ ظلت الدولةَ الأفقر عربياً في محيط هو الأغنى، وهذه مفارَقَةُ تؤكِّدُ مدى متانة الطوق المضروب سعودياً وخليجياً على الـيَـمَـن وشعبِها، وبتواطُؤٍ من مسؤولي صنعاء وعددٍ من الرموز المَشَايِخِيَّة دينياً وقبَلياً.
حديثُ الصورة
صبيحةَ عيدِ الفطر - أي قبل نصف شهر تحديداً - فوجئ الناسُ بالصورة المتلفزة التي جمعت العَـلِـيَّــيْـنِ محسن وصالح وفي الوسط الرئيس هادي الذي حاوَلَ أن يصالحَ بين العَـلِـيَّــيْـنِ بالمصافحة وتدشين صفحة جديدة في علاقات أطراف الحكم التي تعرضت لهزة عنيفة مع الأحداث التي صاحبت ثورة فبراير الشعبية.
قبل الصورة التي جمعت العَـلِـيَّــيْـنِ في "جامع الصالح" ظل الجدَلُ على مدى السنوات الثلاث الماضية بشأن انقسام الحلف الحاكم، وهل كانت خطوةُ محسن في إعلان انضمامه للثورة عمليةً مُرَتَّبةً مع صالح؛ بهدف احتواء عملية السقوط المرتقبة للنظام؟، أم أنها كانت خطوةً منفردةً حاول محسن من خلالها النفاذَ بجلدِه قبل أن تغرَقَ سفينةُ صالح؟.
حادثةُ جامع النهدَين هي الأخرى فتحت جدلاً لم يُغلق بشأن علاقة محسن باستهداف صالح وبشأن أحداث جُمُعة الكرامة، وغيرها من الملفات الساخنة.
بيد أن الصورةَ قد قطعت الشكَّ باليقين، وبغضِّ النظر عن الأسباب التي جعلت كلاً منهما يتقبَّلُ العَودةَ إلى حُضنِ الآخر - وإن لم يتصافحا بعدُ – فقد كانت الخطوة الأولى نحو المصالحة بمثابة إعلان عن عودة مرتقبة لتحالف 7/7/94م مع تبادُل الأدوار بين هادي وصالح لا أكثر. ومعروفٌ أن المؤتمرَ والاصلاحَ والقبائلَ المتحالفة مع صالح ومحسن شكَّلا رأسَ الحربة في حرب صيف 94م وكان هادي والقياداتُ العسكرية الجنوبية (التي نزحت إلى الشمال بعد أحداث يناير 86 في عدن) عاملاً مساعداً في الانتصار العسكري الذي أعلن عنه في 7 يوليو 94م وأفضى إلى تمكين صالح وحلفائه من التفرُّد بحُكم البلاد حتى اندلاع رياح الربيع العربي التي ركب موجتَها إخوانُ الـيَـمَـن وحلفاؤهم القبليون والعسكريون وعلى رأسهم الجنرال علي محسن الأحمر.
كان هذا التقارُبُ قد تبلوَرَ مع الجلسات الختامية لمؤتمر الحوار الوطني، حيثُ كانت الأصواتُ المدَنية داخل المؤتمر تتجهُ نحوَ صياغة خارطة طريق للمستقبل تصطدمُ ومصالحَ قوى الحكم والنفوذ التي اتخذت من حزبَي المؤتمر والاصلاح مظلةً لها، فجاء التقارُبُ المؤتمري/ الإصلاحي بشأن الفيدرالية والأقاليم وانسجامُ الرئيس هادي مع رُؤية الحزبَين وتجاهُلُ رؤى القوى الأخرى وبالذات رؤيتَي الحزب الاشتراكي وأنصار الله .. جاءت كــُــلُّها لتصُبَّ في خانة مصالح القوى التقليدية والمتنفذة التي لم تعجزْ عن استقطاب بعض القوى الجديدة المتطلعة لممارسة الأدوار السياسية دونما خجل أو وَجَل من مغبة تبعات المواقف التي تتخذها.
حربُ عمران والاصطفافُ الجديد
على أن ثَمَّةَ مَن يرى أن المصالحة بين العَـلِـيَّــيْـنِ خطوةٌ اضطراريةٌ فرضتها تداعياتُ حرب عمران وانكسارُ جبهة محسن والاصلاح وآل الأحمر في مدينة عمران ومن قبلها في عموم قبيلة حاشد التي اتضح أنها كانت أسيرة قوى مشيخية متنفذة لنحو خمسين عاماً ، فلما وجدت فرصةً للخلاص بادرت وانتفضت في مسيرات وتظاهرات سلمية جُوبهت بالقمع والعنف فاضطرت للدفاع عن نفسها ومطالبها، وجاء انتصارها مدوياً، حيث قُرعت الأجراسُ في الرياض وصنعاء، وشرعت العاصمتان تنسُجُ خيوطَ المصالحة والاصطفاف الذي تشتمُّ منه رائحةُ الحرب من جديد.
وأيّاً تكُنْ أسبابُ الاصطفاف الجديد القديم فإن ضحيته الأولى شبابُ الثورة السلمية الذين خرجوا إلى ساحات الحرية والتغيير؛ من أجل إسقاط النظام وبناء الدولة المدَنية، فإذا بحبائل السياسة تلتفُّ على رقابهم وتدفعُهم إلى قارعة الطريق يبكون ثورةً تداعت عليها قوى الفساد والاستبداد وتكادُ تحيلُها إلى مجرَّدِ طيفٍ جميلٍ داعَبَ خيالَ شباب2011م.
يتذكر شبابُ الثورة كيف هتفوا للشخصيات والقوى التقليدية التي تقاطرت إلى ساحة التغيير بصنعاء، معلنةً تأييدَها للدولة المدَنية فقوبلت بهتاف "حَـــيَّـــا بهم"، ودارت الأيامُ وانكشف المستورُ، فالذين تقاسموا الحكومةَ وتحاصَصوا الوظيفة العامة غدوا اليومَ في اصطفاف واحد لم تنقصْه سوى صورة جامع الصالح التي كانت تداعياتُ حرب عمران العاملَ المساعد على تسريع تحميضها لا أكثر.
بدايةُ الغيث.. جرعة
ولأن تحالُفَ قوى الإفساد لا يمكنُ أن يشيَ بأي خير على البلاد فما هي إلا ساعاتٌ حتى تجاسرت القيادةُ السياسية لتعلن عن جرعة سعرية جديدة وخانقة بفعل رفع الدعم عن المشتقات النفطية.
كانت الحكومة قد أحجمت في 2013م عن اتخاذ هذه الخطوة، وكذلك ظلت القيادةُ السياسية طوالَ النصف الأول من 2014م تُقدِّمُ رِجْلاً وتؤخر الثانية بشأن هذه الجرعة، ولا شك أن الخيوطَ التي نسجت المصالحة بين العَـلِـيَّــيْـنِ هي ذاتُها التي خطَّطت للجرعة ولتوقيتها ولأسلوب الإعلان عنها، حيث تسربت في إعلان عن شركة النفط عمَّمت بموجبه سعراً جديداً ومرتفعاً لمادتَي البنزين والديزل، وانتظر رئيسُ الجمهورية ثلاثةَ أيام ليجمعَ الحكومة المصغَّرة بعد أن توهمَ أن رَدَّةَ الفعل الشعبية قد جرى احتواؤها وبات بالإمكان التقدمُ خطوةً والإعلانُ عن إصلاحات اقتصادية شكلية مرافقة للجُرعة، مع أن العارفين بأداء هذه الحكومة يدركون أنها عاجزة عن محاربة الفساد وإنفاذ الإصلاحات المزعومة، ذلك أن الحكومة ذاتها غارقة إلى أذنيها في فسادٍ لم يعد حتى محتشماً.
قبل الجرعة والمصالحة (العيديتين) كان الرئيسُ هادي قد دعا إلى اصطفاف وطني وإن طالبت بعضُ القوى السياسية بتوضيح ماهية الاصطفاف المطلوب فإن قوى النفوذ والتسوية الخليجية قد اصطفت بالفعل وأُقرَّت إعلان العقاب الجماعي بحق الشعب، ولم يعد هناك من ضرورة للبحث في ماهية هذا الاصطفاف خاصَّةً بعد أن تأكد أن كــُــلَّ الأَحزَاب السياسية (يمينية أو يسارية) المشاركة في الحكومة قد توافقت على هذه الجرعة.
أيَّةُ مصالَحَة؟
خلالَ الأشهر الماضية كرَّرَ السيد عبدُالملك الحوثي دعوتَه إلى المصالحة الوطنية، وإذْ تجاهلت غالبيةُ القوى السياسية هذه الدعوة، فإنها باتت اليومَ على المحك بشأن الاختيار بين المصالحة الوطنية الحقيقية والرضوخ للرؤية السعودية بهذا الشأن.
وإذا كانت مخرجاتُ مؤتمر الحوار الوطني قد ركّزت اهتمامَها على العدالة الانتقالية كأساسٍ للمصالحة الوطنية فإن الإخراجَ السعودي للمصالحة لا يحفلُ بالعدالة أياً كان نوعُها ولا يعنيه من أطراف هذه المصالحة (في السلطة والمعارضة) سوى التأكيد على الولاء والطاعة لآل سعود.
وإذ جرت في النهر مياهٌ كثيرةٌ على مدى الأشهر الماضية، فيبدو أن الرياضَ تحاولُ لملمةَ أوراقها في الـيَـمَـن من خلال إعادة الاصطفاف بين حلفائها القُدَامى والجُدُد، مع إضفاء صبغة "الوطنية" على هذا التحالف وتمكينه من السلطة وحكم البلاد لفترة تالية، مع محاولة ترميم التصدُّع الذي أصاب هذا التحالفَ بفعل الثورة الشعبية وتداعياتها .
بالطبع فإن مصالحةً كهذه ستكونُ على الضد من تطلُّعات شباب الثورة والتغيير، وستكونُ على حساب العدالة وإن في حدها الأدنى (العدالة الانتقالية)، كما أنها ستكونُ في الضِّــدِّ من الدولة المدَنية التي راقت الدماءُ في سبيلها، ثم إن هذه المصالَحةَ على هذا النحو لا تنسجمُ ومخرجاتِ مؤتمر الحوار الوطني التي تنُصُّ على الشراكَة الوطنية بين كافة القوى والمكوِّنات التي شاركت بمؤتمر الحوار وتوافقت على مخرجاته.
الأسوأُ أنَّ هذه التحالُفَ سيُلقي بظلالِه على صياغة الدستور الجديد، وعلى الخطوات السياسية اللاحقة المتمثِّلة في الانتخاباتِ الرئاسيةِ والنيابية وآليات الانتقال إلى الدولة الاتحادية، وفوقَ ذلك على قرار الـيَـمَـن المفترض أن يكون مستقلاً وغيرَ خاضعٍ للتدخُّلات الخارجية التي لا تكُفُّ عن التلويحِ باستخدام الفصلِ السابعِ ليس تجاه المعرقلين لمخرجاتِ الحوار، ولكن ضد مَن يشُــذُّ عن بيتِ الطاعةِ السعودي /الأَمريكي!
* كاتب من اليمن
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه