المقطع المتصل بالحياة الشخصية للسيد حسن نصرالله، في المقابلة التي أجراها الزملاء في «الأخبار» معه، ونُشر أمس، إضافة إلى طرافته المدهشة بالنسبة إلى محبّي السيد، هو بالغ الأهمية من أجل قراءة معمقة في عقل قائد المقاومة
من أجمل النصوص في تراث كارل ماركس نص قصير لاستمارة صحافية شخصية نشرت في ستينيات القرن التاسع عشر، أضاءت على المفاصل لشخصية أهم مفكر عرفه التاريخ، ما لم تضئه نصوص فكرية وسياسية، وجرى استخدامها في مقاربات بحثية للماركسية، منها، في التأليف العربي، كتاب سالم حميش، «في نقد الحاجة إلى ماركس».
من ذلك النص الماركسي: «الصفة التي أحبذها أكثر هي، عموماً، البساطة، وعند الرجل: القوة، وعند المرأة: الضعف. فكرتي عن السعادة: الصراع، وعن الشقاء: الخضوع. لوني المفضل: الأحمر. صحني المفضل: السمك. شعاري: يلزم الشك في كل شيء. حكمتي المفضلة: لا شيء إنسانياً غريب عني»!
وفي رأيي، إن المقطع المتصل بالحياة الشخصية للسيد حسن نصرالله، في المقابلة التي أجراها الزملاء في «الأخبار» معه، ونُشر أمس، إضافة إلى طرافته المدهشة بالنسبة إلى محبّي السيد، هو بالغ الأهمية من أجل قراءة معمقة في عقل قائد المقاومة ووجدانه.
صحيح أن التحفظات المفهومة أوقفت التسلل إلى شخصية السيد، فلم تكن هناك أسئلة وأجوبة حول الحب والمرأة والألوان وما شابه، كما ورد في المقابلة مع ماركس، ولكن هذا القدر الممكن من التصريحات حول كرة القدم والأطعمة المفضلة والأماكن المفضلة في لبنان والفايس بوك والفضائيات والقراءات واعتياد التنقل السري... إلخ، ربما يكفي جزئياً للإطلالة على دواخل السيد.
المدهش، مع ماركس كما مع نصرالله، أن التعقيد الاستثنائي للمهمات الفكرية والسياسية، والقدرة الفذة على القيام بها، لا يصيبان الوجدان الشخصي بتعقيد مماثل. ماركس كان يحب في المرأة، كأي رجل طبيعي، «ضعفها»، وكان السيد يحب الملوخية والمجدرة والسمك، قبل أن تلزّه الظروف الكفاحية الدقيقة أمنياً إلى الكفّ عن اشتهاء الطعام والرضا بالمقسوم، بلا تذمّر. كأنه أصبح، أي ذلك الرضا، عادة متأصّلة. هذا يتطابق مع القدرات النفسية لشخصيّة مسيحية ـــ حسينية، لكن من دون تعالٍ على الآخرين بالتسامي. ينطبق ذلك على اعتياد الرجل التغيير المستمر لفراشه وغرفة نومه، ما يستنزف، طبيعياً، القدرة على النوم في الأحوال العادية.
يحب السيد، كرة القدم. وكان يلعبها حتى بعدما وضع العمامة على رأسه، وكان معجباً باللاعب الأرجنتيني، مارادونا. يعني ذلك أن نصرالله رُبّيت أحاسيسه خارج الدوائر النفسية للمثقفين الذين يرون في شعبية كرة القدم ضرورة نفسية للانفصال عنها. من الطبيعي أن يكف الرجل، بسبب العمر والمسؤوليات الجسام، عن هواية مشاهدة الميدان الكروي، والتمتع باللعب. أقله من أجل المشاركة الوجدانية مع نجله، حضرا معاً المباراة النهائية للمونديال؛ لفتة صغيرة لقوة أحاسيس الأب لدى أسطورة المقاومة.
«بعلبك» هي البقعة المفضّلة من لبنان عند السيد. يعزو السبب إلى صداقات كوّنها أثناء إقامته فيها؛ من تجربتي، أهل بعلبك والبقاع عموماً هم أقرب اللبنانيين إلى الطباع العربية، والصداقات العميقة. تلك العلامة باقية في وجدان السيد، من أزمنة العيش في الزمكان. الآن، علاقة نصرالله بلبنان ذهنية، ولذلك لم يعد يفضّل منطقة على أخرى، يحبها كلها؛ الحب، بهذا المعنى، موقف، وليس وجداناً. وهذه نقطة ضعف نفسية أنتجتها ظروف القيادة والحرمان من الحياة الاعتيادية بسبب الاحتياطات الأمنية. من طبائع الإنسان تعلّقه بمنطقة ما، طبيعة وبيئة وناساً، لذلك كان تعلّق نصرالله ببعلبك أقرب إلى تكوينه باعتباره واحداً من الناس.
لكن نصرالله يتجوّل. لا يمكنه العيش في برج، ولا يمكنه الاستسلام للاعتبارات الأمنية. ليس الرجل خائفاً في دواخله. وهو ما يسمح له بمعادلة الحركة والتجوال والعيش في المنازل، ولكن في شروط السرية التي يضبطها الأمن لأسباب موضوعية لا ذاتية. يعرف السيد الضاحية، يألفها بأحيائها وشوارعها وناسها. يتابعها، كما الجنوب والبقاع.
اختيارات السيد من المسلسلات التلفزيونية والأفلام، سياسية ودينية؛ أي إنه ليس مشدوداً إلى الجماليات الدرامية. ونستطيع أن نقدّر ذلك، ما دام الرجل لم تتح له فرصة تكوين حساسية ثقافية في هذا المجال، مع أنه، كجميع الشبان المتفتحين في بلاد الشام، قرأ جبران خليل جبران. وجبران محطة ثقافية ـــ نفسية ظلت إجبارية لأجيال؛ عادة يتجاوزها المرء، وينساها، لكنها تترك أثراً عميقاً في التكوين النفسي اللاحق؛ التسامح والمحبة بمعناها الشموليّ، تحديداً محبة الخَلق، ورفض احتكار الخالق.
على نهج المثقفين الباحثين الجادين، يربط نصرالله قراءاته بالقضية المركزية المطروحة في المرحلة، من أجل التأسيس النظري لمجابهة التحديات الفكرية. التحدي الآن يكمن في مسألة التكفير. من المؤسف أن مرجعية السيد في القراءة حول التكفير لا تزال كتباً دينية، سنية وشيعية، مع أن فهم هذه الظاهرة مستحيل إلا بالخروج من هذا السياق إلى سياق أوسع، وخصوصاً لدى الماركسيين، كحسين مروة وهادي العلوي وسمير أمين والعفيف الأخضر... إلخ.
مثلنا يقلّب السيد القنوات، بحثاً عمّا يشدّه من برامج تحليلية. لكن قدرته على مشاهدة «الجزيرة» و«العربية»، للاطلاع، تدلّ على متانة نفسية ــ عصبية؛ فمشاهدة هاتين القناتين أصبحت تسبّب الألم الجسدي عندي كما عند الكثيرين، بينما قراءة الكتّاب المناوئين هي أقلّ وطأة.
من سوء الحظ أن السيد رفض، عن حكمة، الإدلاء بأسماء الكتّاب الذين يتابعهم بانتظام. معرفتنا بتلك الأسماء كانت ستعطينا تصوراً أدقّ عن نمط التفاعل الفكري بين السيد وبيئة الكتّاب. وهؤلاء لا يعبّرون عن اتجاهات فقط، بل عن ضفيرة من الاهتمامات والمقاربات المرتبطة بالبعدين الثقافي والشخصيّ.