نبرة السيد حسن في ختام كلمته رسمت خريطة سوداوية جداً، إذا تخلى «الجميع» «نحن هنا ولدنا وهنا نشأنا وهنا سنقاتل». كأن المفهوم من ذلك، أن «حزب الله» مستعد لقتال «داعش» هناك وهنا، ولو وحده.
«داعش» هي الأقوى، وسيأتي دورنا. وفي انتظارها، يعضّنا خوف ورعب، فتصطك دول وتتساقط حدود وتفر شعوب من بلادها.
نصري الصايغ/جريدة السفير
«داعش» هي الأقوى فمتى سيأتي دورنا؟ كل ما حولنا يرتدي زي القاتل، وكل ما يتحرك فجأة، ظل من رايات سود... الوهم من «داعش» أو الخوف منها، شيء لا يمكن احتماله.
«داعش» هي الأقوى فأين نختبئ؟ أين نخبئ إيماننا وأدياننا؟ أين نحتفظ بسلالاتنا الموغلة في التراث والحضارة؟ ماذا نفعل بأسمائنا الفاقعة، وهي تقتفي سيرة أنبياء وأولياء وقديسين؟ أين نخفي أولادنا وأحفادنا وأيقونات حبنا؟ أين، وزي «داعش» يقتفي أيامنا كالوسواس. نكاد ننطفئ؟.
من يظن أن هذا الكلام مبالغ في تضخيم الخطر، سيكتشف في ما بعد، عندما يصبح على تماس مع ظلال «داعش»، أن هذا الكلام، مقصِّر جداً. فأن تقرأ عن «داعش» وتخاف، ليس كأن تقرأ عليك «داعش» حكمها بالقتل، وترى رأسك بين رجليك.
«داعش» هي الأقوى وحدها. تقاتل جيوشاً وتكتسح أراضيَ وتسبي جماعات وتبيد أقليات وتنشئ إمارات وخلافة، تتمدد «بفتوحات» بسرعة غير مسبوقة. من ينظر إلى خريطة معاركها، سيجد أن لديها جيوشاً لا جيشاً، وأساليب قتال، لا يتفوق عليها أحد في اعتمادها. فمن أراد أن يهزمها، فعليه أن يكون أكثر توحشاً منها وأكثر بربرية وأكثر همجية، ولا يدين بغير القتل، صبحاً وظهراً ومساءً، وعلى امتداد خريطة «الكفر». فمن منا أو من جيوشنا أو تنظيماتنا لديه الجرأة على التفلت من كل ما هو ديني وقيمي وإنساني لممارسة التوحش؟
«داعش» هي الأقوى، تقاتل وحدها ويقاتلها كثيرون، جيوش دول لم تقوَ عليها. الجيش العراقي انهار وتفكك وتطيَّف وبحاجة إلى من يلمّه، لإنقاذ بغداد من الاحتلال. المتطوعون الجدد، من الشيعة في صفوف الجيش، يتساقطون بالمئات.
الجيش السوري يقاتلها، أو بالأدق، هي تقاتله. يحيط بها من جهة، فتحيطه من جهات، آخرها في «ما بعد القصير ويبرود»، على امتداد الجبال والمغاور في القلمون، وعرسال ضاحية من ضواحيها، قيد التجارب، وبانتظار الانقضاض ونشر العدوى... كلام كثير في قرى لبنانية متاخمة لا تنام، بسبب ما يُروى، حقاً أو ضلالاً، عن وجود «داعش» على الأبواب القريبة والممرات الأكيدة.
جيش «البشمركة» يقاتلها. هذا الجيش الذي أفرحه انفراط جيش العراق، فأقدم على احتلال كركوك، خرّ على قدميه خوفاً، عندما بلغت «داعش» تخوم أربيل، فاستنجد بالعالم، فهب الغرب جواً وتسليحاً ودعماً لإنقاذه من «داعش».
«داعش» تقيم دولة كاملة الأوصاف: سلطة وخلافة وأمراء وقادة جيوش وقضاء وفق الشريعة الإسلامية، بتشدد وتفقه إجرامي واستئصالي، ولديها جباية، من أنفال وغزوات وغنائم وجزية ومكوس ونفط وتجارة، ومن بيت المال هذا تنفق على أجهزة الدولة وإداراتها وتسليح جيوشها... دولة بحيوية فائقة، وطاقاتها على الكسب والفوز وهضم المعارك، تفوق كل ما عرفناه في تاريخ الحركات. «داعش» دولة إقليمية كبرى، قيد التوسع، بلا هوادة.
«داعش» هي الأقوى. الديموغرافيا ليست ضدها. مخزونها البشري، رحم لا ينضب، رحم مفتوح على إنجاب لا يتوقف، وعلى ولادات بألوان شتى، من الشيشان إلى مالي إلى أكثرية دول العرب، حيث للإسلام الوهابي حضور سابق، وتجسد راهن. لا حدود لرحمها الذي يمدها بنمو ديموغرافي، لا كسل في عطائه. الأعداد وفيرة والسلاح أكثر وفرة.
ليست «داعش» كـ«القاعدة»، وهي من صلبها. هذه تقوم بعمليات، أينما كان وأنَّى يتاح لها، والهدف تدمير ما لدى الآخر، وليس الانتصار عليه. هي جهادية أممية وعابرة كل أرض، هي أمة الإسلام. «داع»، مع الزرقاوي، صارت مشروعاً لإقامة دولة في أرض محددة هي العراق. إرهابها لكسب الأرض والانغراس فيها. «داع»، أقامت سلطتها في الميدان وفي المدن، قبل إعلان الخلافة. إرهابها، لتكنيس الأرض من الأعداء والأنجاس. أما «القاعدة»، فإرهابها صوت مدوٍ وأذى بالغ، والحصاد يعود على أفراد «القاعدة» بضرورة الاختباء والمزيد من السرية والإقامة في المغاور وفي العتمة.
السيد حسن نصر الله، في ذكرى انتصار تموز ـ آب، على العدو الإسرائيلي، رأى إلى «داعش» كما هي: «انها خطر وجودي». لا خطر يوازي الخطر الوجودي. مضمونه: إما أنا وإما أنت. الأرض لا تحتمل اثنين. لا تحتمل مؤمناً وكافراً، سنياً على طريقة «داعش»، وسنياً على طريقة قريبة منها، فكيف بالأبعدين من السنّة؟ لا تحتمل «داعشياً» و«نصروياً» و«شيعياً» وكردياً، وايزيدياً، وعلوياً ومسيحياً ولا أي كائن تحت أي تسمية... لا خطر يوازي خطر «داعش»، فهي ضد الإنسان والأديان والأنظمة والدول والأقليات.
هي خطر على الجميع... ولكن الجميع، وهم أكثر منها، أضعف منها بكثير.
ما قاله السيد مخيف. ما قاله ليس تهبيط حيطان. من يستطيع أن يهزم «داعش»؟ إذا كانت هي الأقوى الآن، فهل من خريطة طريق لقوة أقوى منها غداً، تقف سداً في وجهها وصداً لاجتياحاتها وبربريتها؟
«الجميع» الذي ضد «داعش»، هو أيضا ضد بعضه البعض. لا مشروع اتفاق على الحد الأدنى: قتال «داعش» والتكفير. للدول العربية حساباتها. للقوى السياسية حساباتها. لقوى المذاهب والطوائف حساباتها. للقوى الغربية حساباتها. ولا حساب يجمع بين هذا «الجميع» المتنافر.
نظرياً، هؤلاء قادرون على هزيمة «داعش» بسرعة. المطلوب إذاً، «حلف الأعداء»، لمواجهة العدو الأخطر على الجميع. ليس مطلوباً أن يتصالح المختلفون، بل أن يضعوا على الرف خلافاتهم، ريثما ينهون الإعصار.
دعوة السيد نصر الله الصريحة لتوحد الجميع هنا، قبل أن تصبح الاستعانة بأميركا أمراً مقبولاً ومرغوباً ومطلوباً، قد لا تجد دعوة السيد آذاناً صاغية. الآخرون يفضلون الاعتماد على القوات الأميركية، ولقد دخلت الميدان جواً، بانتقائية تتناسب ومصالحها. لن تساعد دولاً وتنظيمات تخاصمها. لذا، هبّت لمساعدة «البشمركة»، ووعدت العراقيين، بعد تنحية المالكي، بضربات جوية لإنقاذ بغداد.
نبرة السيد حسن في ختام كلمته رسمت خريطة سوداوية جداً، إذا تخلى «الجميع» «نحن هنا ولدنا وهنا نشأنا وهنا سنقاتل». كأن المفهوم من ذلك، أن «حزب الله» مستعد لقتال «داعش» هناك وهنا، ولو وحده. وعندها تكون الحرب الحقيقية دفاعاً عن الوجود، لجماعة تستهدفها «داعش» في الأصل... إذا كانت الدولة اللبنانية والدول الأخرى عاجزة ومرتبكة ومشتبهة، فمنطق الحفاظ على الوجود للجماعات، سيأخذ مجراه، وعندها، من يعرف عدد الأعوام وأعداد القتلى وأحزان البلاد.
عسى تتحقق نداءات السيد، وإلا، فلن يكون في فمنا غير الصراخ بلا صوت، ولن يكون في لغتنا غير «يا للهول»! وليس في عيوننا، غير الانطفاء.
هناك أمل. لم يفت الأوان بعد؟ فمتى؟
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه