خطورة «الدولة الاسلامية» تكمن في اعتناقها ذات المدّعيات العقدية وتبشيرها بنفس التعاليم الدينية التي صاغها المؤسس محمد بن عبد الوهاب، وتزيد على ذلك أنها تحمل في طياتها الوعد المؤجل منذ قرنين، أي إقامة دولة الخلافة
من أجل تقدير دقيق للخطورة المتمثّلة في مشروع «داعش»، لا بد من قراءة إجمالية للعقل السياسي السعودي.
فالدولة السعودية الوهابية التي نشأت في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي عقب تحالف الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود عام 1744 والذي أسّس لدولة دينية تقوم على تقاسم السلطة بين الشيخ والأمير، أريد لها الانفراد بالتمثيل السياسي السني، بما يحول دون نشوء أي كيان آخر منافس داخل المجال الإسلامي العام.
في داخل المجال الديني الوهابي، خاض حرّاس المذهب تحديّات متعاقبة لجهة إبقاء الدولة السعودية داخل نطاق تأثير التعاليم الوهابية التي وضعها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسائله ومصنّفاته وسيرته. وجرت محاولات فردية أحياناً وجماعية أحياناً أخرى لجهة إعادة وهبنة الدولة السعودية ولكن باءت المحاولات بالفشل.
من بين المحاولات الفردية، ما قام به الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، أحد أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكان بمثابة المفتي العام في الدولة السعودية الثانية، وقد بعث رسائل الى الأمير فيصل بن تركي آل سعود (1788 ـ 1865) يذكّره بالأساس الديني الذي قامت عليه الدولة السعودية: «وأهل الاسلام ما صالوا على من عاداهم، الا بسيف النبوة، وسلطانها، وخصوصاً دولتكم، فإنها ما قامت الا بهذا الدين...» (الدرر السنية في الاجوبة النجدية، جمع عبد الرحمن بن محمد النجدي، الطبعة السابعة، 2004، الجزء 14 ص 70).
كانت معركة السبلة عام 1929 مواجهة بين الدولة السعودية المحدّثة وحرّاس الوهابية
وقد حذّر علماء المذهب الوهابي أمراء الدولة السعودية الثانية من العواقب الوخيمة التي آلت اليها أمور الدولة السعودية الأولى، حين غيّر الأمير سعود بن عبد العزيز بن محمد طريقة والده (وبغاها ملكاً) بتعبير الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، أي حين «طغت أمور الدنيا على امر الدين»، بحسب قوله (الدرر السنية في الاجوبة النجدية، ج14 ص 123). فقد أراد الشيخ عبد الرحمن تأكيد دور الدين في بقاء واستقرار وقوة الدولة ووحدتها وتمركزها النجدي، ولذلك طالبه بشدة بأن يجعل الحكم أمر دين (الدرر السنية، ج14 ص 124).
تكشف رسائل المشايخ في سنوات لاحقة عن إحباط شديد إزاء جنوح الدولة السعودية بعيداً من المبادئ الوهابية، واتسعت هوّة الخلاف بين الطرفين، وفيما كان الحكّام السعوديون يصرّون على بقاء مصدر المشروعية الدينية فاعلاً في البيئة الشعبية الحاضنة لحكمهم، أي نجد، فإنهم في المقابل واجهوا تحدّيات جمّة تفرضها متطلبات التحديث، بما في ذلك استعارة أنظمة وتشريعات غير مستمدة مباشرة من الكتاب والسنّة، واعتبره العلماء اختراقاً لمجالهم السيادي، كون التشريع يمثّل امتيازاً خاصاً لهم، وهو ما دفع المفتي الأكبر ورئيس القضاة في عهد الملك فيصل، الشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ لوضع «رسالة في تحكيم القوانين» (مكة 1960) جاء فيها ما نصّه «أن الحاكم بغير ما أنزل الله كافر، إما كفر اعتقاد ناقل عن الملة، وإما كفر عمل، لا ينقل عن الملة». وسئل المفتي السابق، الشيخ عبد العزيز بن باز (1999): هل يعتبر الحكّام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله كفاراً...؟ فأجاب: فمن حكم بغير ما أنزل الله يرى أن ذلك أحسن من شرع الله فهو كافر (انظر: مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز، المجلد الرابع، ص 416).
وقد فهم طلاّب الشيخ بن باز ومن جاء بعدهم، خصوصاً من «الجهاديين» في «القاعدة» و «داعش» تلك الفتاوى على أن النظام السعودي في مقدمة المستهدفين بفتاوى الشيخين ابن ابراهيم وبن باز. وقد أسست تلك الفتاوى لتكفير الدولة السعودية كونها حكّمت قوانين وضعية في المحاكم.
وكان أول خلاف بين آل سعود وقاعدتهم الشعبية برز في النزاع بين ابن سعود وجيشه العقائدي المتمثل في «الاخوان»، حول إبقاء الصلاحية العملانية للتصوّر العقدي الوهابي القائم على التكفير والهجرة والجهاد مفتوحة، وقد أخذوا عليه أنه «عطّل فريضة الجهاد» الى جانب إدخاله البدع «اللاسلكي والتلغراف» الى بلاد الإسلام.
كانت معركة السبلة عام 1929 بين ابن سعود والاخوان مواجهة بين الدولة السعودية المحدّثة وحرّاس الوهابية في نسختها الأصلية. قُضِيَ على الإخوان بدعم عسكري بريطاني وجرى استيعاب فلولهم داخل مؤسسات الدولة.
وجرت محاولة أخرى في منتصف الستينيات من القرن الماضي من قبل شباب يتحدّر بعضهم من «الإخوان» بتأسيس جماعة دعوية أطلقت على نفسها «الجماعة السلفية المحتسبة»، واختارت المفتي السابق الشيخ عبد العزيز بن باز، مرشداً لها.
وما لبث أن طوّر قادة الجماعة من أفكارها وأساليبها وراحوا يصوغون رؤية دينية وسياسية والانتقال من مرحلة الدعوة السلمية الى مرحلة المواجهة المسلحة لناحية ليس إعادة وهبنة الدولة السعودية فحسب بل والانتقال الى مرحلة متقدّمة في الصراع الكوني، والذي توّج باندلاع حركة تمرّد مهدويّة داخل الحرم المكي في نوفمبر/ تشرين الثاني 1979 بقيادة جهيمان العتيبي الذي قتل ورفاق دربه وفشلت الحركة في تحقيق اهدافها.
من يقرأ سيرة أفراد الطبقة القيادية في التنظيم يجد أن هؤلاء تشرّبوا العقيدة الوهابية
لا بد من الإشارة الى أن رسائل جهيمان باتت مكوّناً أساسياً في أدبيات السلفية الجهادية الممثلة حالياً في «القاعدة» و»داعش». حدّد جهيمان في «رسالة الإمارة والبيعة والطاعة وحكم تلبيس الحكام على طلبة العلم والعامة»، وظيفة الحاكم وقال بأن «واجب الخليفة هو تحكيم الشريعة»، وإلا «فقد ضل عن سبيل الله...». وكان يعتقد جهيمان بأن واقع حال المملكة السعودية هو «تعطيل الحكم بكتاب الله». وبحسب مقاربة الشيخ محمد بن ابراهيم والشيخ بن باز فإن من هذه حاله يعتبر كافراً.
توارى جهيمان جسداً وبقيت أفكاره تتفاعل في طبقات المجتمع الوهابي، وبعد غزو نظام صدام حسين للكويت في آب 1990، ولدت حركة اعتراضية من داخل المجتمع الوهابي عرفت لاحقاً بتيار الصحوة بقيادة مشايخ من الطبقة الثانية في التراتبية الوهابية في المملكة السعودية أمثال: سفر الحوالي وسلمان العودة وناصر العمر وعايض القرني وعادل الكلباني وغيرهم، وزوّدوا الساحة المحلية بفيض من الخطابات الاحتجاجية ضد المخالفات الشرعية للنظام السعودي في ضوء ما ورد في رسائل جهيمان. وكان إصدار «مذكرة النصيحة» في يوليو/ تموز 1992 والتي حملت توقيعات 108 من المشايخ والقضاة والدعاة وأساتذة الجامعات الدينية والأكاديميين والأطباء والمهندسين المصنّفين على التيار الديني الوهابي، يعتبر ذروة النشاط الاحتجاجي الوهابي في المملكة، حيث طالب الموقّعون بإعادة أسلمة الدولة السعودية على منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وكان المطلب الرئيسي في «المذكرة»: «وجوب التحاكم الى شرع الله وتحكيمه في جميع شؤون الفرد والأسرة والدولة وفي علاقة الأمة بالدولة، وفي علاقة الدولة والأمة بغيرهما من الدول والأمم...».
وبالعودة الى أدبيات القاعدة، سوف يظهر بأن التركة الصحوية، خصوصاً ما يتعلق منها بالسعودية، شكّلت الخلفية الفكرية والسياسية لتنظيمات السلفية الجهادية في الجزيرة العربية المرتبطة بالقاعدة، واندغمت بصورة تلقائية وسلسة في البنية الإيديولوجية لدى «داعش».
من الضروري لفت الانتباه الى أن عقيدة «داعش» لا تختلف عن عقيدة أي تنظيم سلفي جهادي أو صحوي. وعودة سريعة الى المكتبة العقدية المثبتة على المواقع الاكترونية لتنظيم «داعش» سوف تنفر الهوية العقدية لدى التنظيم. من نافل القول، إن مؤلفات محمد بن عبد الوهاب مثل «كتاب التوحيد» و»كشف الشبهات» و»نواقض الاسلام»، وغيرها يجرى توزيعها في المناطق الخاضعة لسيطرة «داعش»، ويتم تدريسها وشرحها في الدروس الدينية الخاصة التي يعقدها الجهاز التربوي في التنظيم.
علاوة على ذلك، من يقرأ سيرة أفراد الطبقة القيادية في تنظيم «دولة العراق الاسلامية» وتالياً «الدولة الاسلامية في العراق والشام» أو «الدولة الاسلامية» سوف يجد وبسهولة متناهية أن هؤلاء تشرّبوا العقيدة الوهابية وأتقنوا العمل بكل تفاصيلها... بل يتعمَّد كتّاب سيرهم التشديد على عبارة «يسير على منهج السلف»، أي يعتنق المذهب الحنبلي الوهابي. هذا ما نقرأه في سيرة: ابو عمر البغدادي وخلفه ابو بكر البغدادي، ووزير الحرب السابق ابو حمزة المهاجر المصري، ووزير الاعلام والمتحدث الرسمي باسم الدولة أبو محمد العدناني الشامي وغيرهم.
أبو عمر البغدادي، أول أمير للمؤمنين في «دولة العراق الاسلامية» عام 2006، صاغ على سبيل المثال ثوابت دولته المأمولة فكانت سلفية وهابية، وهو من أعدّ الوثيقة التعريفية بعقيدة «الدولة» ومن بين أهدافها: أولاً: إقامة الدين ونشر التوحيد «الذي هو الغاية من خلق الناس وإيجادهم والدعوة إلى الإسلام...». وهو التعريف الذي يمكن العثور عليه في رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وشروحات كتاب التوحيد من مشايخ الوهابية.
إذاً مشروع «داعش» ليس شيئاً آخر غير إعادة إحياء وهابية الجيل المؤسس، وهو ما يبعث القلق لدى آل سعود، لأن التصحيح في المشروع الوهابي يأتي هذه المرة من خارج الدولة السعودية، ويبطن تقويضاً لمشروعيتها.
وشأن كل التنظيمات السلفية الوهابية، فإن تكفير الآخر، مسلماً كان أم كتابياً، بات سمة راسخة في عقيدتها، ببساطة لأن المواصفات الصارمة المطلوبة في الانسان المسلم بحسب رؤية هذه التنظيمات لا تنطبق سوى على المنضوين تحت راية الوهابية. الطريف أن قيادة تنظيم «داعش» تلوذ بالمنطق ذاته لدى محمد بن عبد الوهاب حين وجّهت له تهمة التساهل في تكفير المخالفين.
يقول ابو عمر البغدادي في بيان عقيدة «الدولة» في كلمته بعنوان: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي) في 13 مارس/ آذار 2007: «وقد رمانا الناس بأكاذيب كثيرة لا أصل لها في عقيدتنا، فادَّعوا أننا نكفر عوام المسلمين ونستحل دماءهم وأموالهم».
وحين رد التهمة لجأ البغدادي الأول لمنهجية محمد بن عبد الوهاب نفسها في تكفير الآخر ولكن بطريقة مواربة. وحين نعود الى المصنّفات الوهابية في التكفير لا نجد البغدادي إلا مقلّداً ومردّداً لمقولات الوهابية في التفكير.
ثوابت «الدولة» كما حدّدها أبو عمر البغدادي تكاد تكون منقولة حرفياً من المرجعيات الوهابية مثل «وجوب هدم وإزالة كل مظاهر الشرك، وتحريم وسائله...»، و»من نطق بالشهادتين وأظهر لنا الإسلام ولم يتلبس بناقض من نواقض الإسلام عاملناه معاملة المسلمين...»، وأن «الكفر كفران: أكبر وأصغر»، و»وجوب التحاكم إلى شرع الله من خلال الترافع إلى المحاكم الشرعية في الدولة الإسلامية، والبحث عنها في حالة عدم العلم بها، لكون التحاكم إلى الطاغوت من القوانين الوضعية والفصول العشائرية ونحوها من نواقض الإسلام...». والنقطة الأخيرة تبدو واضحة في أن من يتحاكم الى غير محاكم «الدولة» يكون قد ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام وبذلك يصبح كافراً، وبالتالي فإن الغالبية الساحقة من المسلمين هم كفّار كونهم يتحاكموا في غير محاكم «الدولة»!.
كخلاصة، فإن داعش وفق المعطيات سالفة الذكر يمثّل أشد الجماعات التكفيرية إسرافاً في إطلاق أحكام التكفير حتى لا تكاد تجد مسلماً خارج نطاق «داعش»، وفي ذلك التزام أمين بالتصوّر الوهابي الأول للعالم.
من التوحش الى التمكين
يصوغ منظّرو «القاعدة» و»الدولة» استراتيجية شاملة للتغيير تقوم على ثلاث مراحل: النكاية والإنهاك، التوحش، التمكين (= قيام الدولة). وتشتمل مرحلة التوحّش على مهمات كثيرة منها رفع الحالة الايمانية لتسهيل استقطاب الناس الى صفوف العاملين: «عبر توجيه رسول من التنظيم للإدارة المسؤولة عن المناطق المجاورة لدعوتها للدخول في ولاء أهل التوحيد والجهاد...» (أبي بكر ناجي، إدارة التوحش، سلسلة مقالات في فقه التغيير، الحلقة الاولى من سلسلة تحفة الموحدين في طريق التمكين، مركز الدراسات والبحوث الاسلامية، د.ت، ص47).
وفي نهاية المطاف، فإن استراتيجية السلفية الجهادية تقوم على رؤية عقدية وهو ما ينعكس على تصوّرها للمعركة «أن معركتنا هي معركة توحيد ضد كفر وإيمان ضد شرك، وليست معركة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية...» (أ.ناجي، إدارة التوحّش، مصدر سابق ص112).
ويرسم الشيخ أبي بكر ناجي صورة مثالية لمهمات إدارة التوحش، من بينها: إقامة القضاء الشرعي بين الذين يعيشون في مناطق التوحش، العمل على بث العلم الشرعي الفقهي (الأهم فالمهم) والدنيوي (الأهم فالمهم). وخصائص مرحلة التوحّش تكاد تشبه خصائص الإمارة الدينية التي أقامها محمد بن عبد الوهاب في الدرعيّة، وسط نجد، حين طبّق رؤيته الدينية الصارمة في إدارة شؤون العباد، لتطبيق الشريعة وإقامة الحدود، وجبي أموال الزكاة والغنائم.
وهنا مكمن الخطورة على الدولة السعودية التي تمثّل الوهابية، الإيديولوجية المشرعنة لها، حيث يعتنق «داعش» مشروعاً أممياً ناضلت الوهابية منذ منتصف القرن الثامن عشر وحتى نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي من أجل تحقيقه ولكن تمّ القضاء عليه نتيجة إذعان عبد العزيز آل سعود لقوانين النظام الدولي حينذاك.
قيام «الدولة الاسلامية» وفق رؤية عقدية وهابية، يشكّل خطراً جديّاً بالنسبة إلى السعودية التي تسعى إلى تقويض أي مشروع أممي قد يصل الى داخل حدودها... في واقع الأمر، أن «داعش» هو البديل العملاني من شبكة «القاعدة» التي تخسر فروعها لمصلحة «الدولة الاسلامية» التي لم تعد مقتصرة على العراق والشام، وإنما باتت مفتوحة على المكان، فكل أرض خضعت تحت سيطرة «الدولة» باتت جزءاً من سيادتها.
ويعطي أبو محمد العداني توصيفاً خاصاً للدولة بما نصّه: «الدولة الإسلامية ما وُجِدت قديماً وحديثاً إلا لتحقيق هذه الغاية التي هي حمل الناس كافةً على التوحيد والاحتكام بشرع الله ليكونوا أمةً واحدة...».
إنها بكلمات أخرى دولة حرب، تستمد وجودها ومشروعيتها من إيديولوجية الفتح، أي النزاعات مع الدول الأخرى وعلى القطيعة والخصومة معها، فهي تريد أن تحكم بالسيف لتطبيق الشرع!
ولذلك، نلحظ كيف تدرّج مشروع «الدولة» من كونه خاص بالعراق ولأهل السنة فيه على وجه الخصوص حين أعلن عن «الدولة الاسلامية في العراق» (تشرين الأول/ أكتوبر 2006)، ثم تحوّل الى مشروع يضم العراق والشام (داعش)، أي «الدولة الاسلامية في العراق والشام» (9 نيسان 2013)، وأخيراً أصبح مشروع خلافة إسلامية وصار اسمها «الدولة الاسلامية» (29 حزيران 2014)، وهذه مفتوحة على الأرض.
لمعرفة أهداف «الدولة» نعود الى كلمة الأمير السابق للدولة الاسلامية في العراق ابو عمر البغدادي في سياق رصده لمكاسب «مجاهدي» الدولة بعد أربع سنوات من ولادتها، ويضع في الناحية العقدية «ففي فترة زمنية قياسية درب جيل كبير من الشباب على عقيدة الولاء والبراء المنسية...»، ولا تتحقق هذه العقيدة إلا في وجود جماعة، وتعليل ذلك: «أن الجماعة هي تجسيد عملي لحقيقة الولاء والبراء في الإسلام، فارتباط المؤمنين في جماعة واحدة بعد ارتباطهم بالتوحيد هو الذي يجسد هذا الإيمان في واقع الحياة». فهي إذاً دولة دعوية لا صلة لها بالدول المتعارف عليها.
في ضوء الأدلجة الفارطة للدولة، نجد أنفسنا أمام الرؤية الوهابية النقيّة التي صاغها محمد بن عبد الوهاب حين أقام إمارة دينية تكون منصّة لإطلاق مشروع الخلافة الاسلامية القائمة على: التوحيد، والولاء والبراء، والهجرة والجهاد.
ثمة دلالة كبيرة في دعوة أبي بكر البغدادي، خليفة «الدولة الاسلامية» في خطبته في المسجد الكبير في الموصل في 4 تموز الماضي المسلمين عموماً بالانضواء في الدولة والهجرة اليها، «فيا أيها المسلمون في كل مكان؛ مَن استطاع الهجرة إلى الدولة الإسلامية فليهاجر، فإن الهجرة إلى دار الإسلام واجبة... ففرّوا أيها المسلمون بدينكم إلى الله مهاجرين...».
إن عبارة «الهجرة الى دار الإسلام واجبة...» كفيلة بالكشف عن حقيقة عقدية لدى البغدادي وأهل دعوته، فمجرد الدعوة الى الهجرة يعني أن ثمة دار شرك يراد الهجرة منها الى مكان آخر، كالهجرة من مكّة الى المدينة، وأن تكون الهجرة واجبة تعني أن المشروعية الدينية باتت محصورة في النطاق الجغرافي للدولة الاسلامية التي يتولى أمرها ابو بكر البغدادي. هنا نستحضر تجربة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وانتقاله من العيينة الى الدرعيّة وسط نجد، حين دعا أنصاره بالهجرة الى الدرعية باعتبارها دار الإسلام وأن الهجرة اليها واجبة، وما عداها يصبح تلقائياً دار كفر.
السعودية... في مرمى «الدولة»
باتت السعودية اليوم من بين مجموعة دول تضم الأردن وبلاد المغرب ونيجيريا وباكستان واليمن، من ضمن الدول المرشحة لأن تكون ضمن مناطق التوحش، لوجود عمق جغرفي وتضاريس تسمح بإقامة مناطق تدار بنظام إدارة التوحش، وضعف النظام الحاكم وضعف حضوره العسكري في الأطراف، وجود مد إسلامي جهادي واعد، طبيعة الناس في هذه المناطق، انتشار السلاح بأيدي الناس فيها (أ. ناجي، طريق التمكين، مصدر سابق 8 ـ9).
ومن الضروري الإشارة الى أن مرحلة إدارة التوحش تكون تمهيدية لمرحلة التمكين، وإن ادخال السعودية ضمن استراتيجية التغيير يعني أن داعش يستعد لتحقيق الوعد الوهابي المؤجل بإقامة الخلافة.
استبشر كثير من المقرّبين من النظام السعودي بسيطرة «داعش» على الموصل وتمدّده الى محافظات عراقية أخرى، وبالغ البعض في وصف ذلك، فبين من أسبغ على مقاتلي داعش صفة «الثوار»، وبين من اعتبر فعله «حركة تحرير»، ولكن ما لبّث أن انقلب المزاج العام بصورة دراماتيكية، منذ الإعلان عن إقامة «دولة الخلافة»، وبدء الحديّث عن تمدّد «الدولة» الى الجنوب، الى حيث «الجزيرة العربية».
فوجئت السلطات السعودية بالمنسوب المرتفع من التعاطف مع «دولة الخلافة» وسط القاعدة الشعبية الوهابية، إلى درجة أن حملات الكترونية انطلقت بصورة متزامنة تشيد بإعلان الدولة وتعلن البيعة لأميرها أبي بكر البغدادي.
اكتشفت السعودية بأن ثمة مجتمعاً داعشياً ثاوياً وسط المجتمع الوهابي الذي تعتقد بأنها تديره وتسيطر عليه. تنبّه آل سعود الى أن انبعاثاً وهابياً انطلق من خارج الحدود هذه المرة ويمثّل أكبر وأخطر تهديد واجهه النظام السعودي منذ نشأته.
خطورة «الدولة الاسلامية» تكمن في اعتناقها ذات المدّعيات العقدية وتبشيرها بنفس التعاليم الدينية التي صاغها المؤسس محمد بن عبد الوهاب، وتزيد على ذلك أنها تحمل في طياتها الوعد المؤجل منذ قرنين، أي إقامة دولة الخلافة، وصنع ما أخفق في صنعه مشايخ الوهابية و»الاخوان» و»حركة جهيمان» و»مشايخ الصحوة» و»قاعدة الجهاد في جزيرة العرب» وغيرها من المحاولات الفردية والجماعية.
حارب آل سعود أنظمة الحكم الدينية بعد اندلاع الربيع العربي، وخصّصوا ميزانيات ضخمة لإسقاط حكم الاخوان في مصر كي لا ينشأ نموذج حكم إسلامي ينافس ويقوّض مشروعية النظام السعودي، ولكن برز إليهم من داخل المجال الوهابي من يحمل مشروعاً منافساً ويملك من الأفكار التحريضية، والمبررات الدينية، والقوة العسكرية والبشرية ما يجعله بديلاً محتملاً، وسط بيئة بدت كما لو أنها منقسمة على ذاتها، يكشف عن ذلك توجيه شباب على مواقع التواصل الاجتماعي دعوة الى أمير المؤمنين في «الدولة الاسلامية» للقدوم الى الحجاز لتحرير مكّة من آل سعود!.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه