ويبدو الأمر انهياراً كبيراً وفظيعاً للغة كانت يوماً عالمية. فقد تكلم بها لأول مرة الآراميون البدو منذ ثلاثة آلاف سنة في سوريا، ثم وصلت إلى الذروة عندما أصبحت اللغة الرسمية للإمبراطورية الآشورية
قرقوش، تل كيبه، وكرملش، أسماء لثلاث بلدات عراقية سيطر عليها «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» ـ «داعش»، وهي أيضاً أسماء لثلاث بلدات تمثل آخر أهم مراكز العالم للناطقين باللغة الآرامية.
وفي خلفية الأزمة الإنسانية التي خلفها تهجير الآلاف من السكان العراقيين من مواطنهم وأرضهم، أزمة طارئة وملحة أخرى ذات أبعاد ثقافية ولغوية.
وقلما يكون انقراض لغة في موطنها الأصلي ناجماً عن عملية طبيعية، بل يكون دائماً انعكاساً لضغوط سياسية واضطهاد وقتل يتعرض له المتكلمون بها. هو أمر يشبهه عالم الألسنيات كين هال بـ«إلقاء قنبلة ذرية على متحف اللوفر الباريسي»، ما يعرض نماذج كاملة من الأفكار وأنظمة المعرفة إلى الزوال.
وتغطي اللغة الآرامية مجموعة واسعة من اللغات واللهجات السامية، المترابطة في ما بينها، من دون أن يفهم بالضرورة المتكلم بإحداها لغة أخرى من العائلة ذاتها. وآخر الإحصاءات المتوفرة منذ تسعينيات القرن الماضي تشير إلى وجود 500 ألف متكلم بالآرامية، يعتقد أن نصفهم يعيش في العراق. أما اليوم، فأغلب الظن أن هذا الرقم انخفض قليلاً، فيما ينتشر المتحدثون بهذه اللغة في بقاع الأرض، علماً أن قلة قليلة من أطفالهم يجيدون الآرامية الآن، فيما لا تتمتع هذه اللغة القديمة بالحماية أو الاعتراف الرسمي من قبل أي دولة في العالم.
ويبدو الأمر انهياراً كبيراً وفظيعاً للغة كانت يوماً عالمية. فقد تكلم بها لأول مرة الآراميون البدو منذ ثلاثة آلاف سنة في سوريا، ثم وصلت إلى الذروة عندما أصبحت اللغة الرسمية للإمبراطورية الآشورية. كانت أشبه باللغة الإنكليزية اليوم، وانتشرت من الهند إلى مصر.
واستطاعت اللغة الآرامية الصمود في ظل صعود وانهيار الإمبراطوريات، وازدهرت تحت حكم البابليين، ومن ثم في فترة حكم أول إمبراطورية فارسية في القرن السادس قبل الميلاد. كذلك، استخدمها ملايين الأشخاص في قطاعات التجارة والديبلوماسية، وفي حياتهم اليومية. وحتى بعدما فرض الإسكندر الأكبر اللغة اليونانية على أراضيه في القرن الرابع قبل الميلاد، واظبت الآرامية على انتشارها، كما تمخضت عن لهجات جديدة، وحلت محل لغات محكية في مناطق عدة، كما حصل في فلسطين القديمة.
وصمدت اللغة الآرامية لقرون بعد الإسكندر الكبير في منطقة الشرق الأوسط وحوض البحر الأبيض المتوسط، ولكن بعد انتشار اللغة العربية، أصبح للمتكلمين باللغة الآرامية مجتمعاتهم المنعزلة في الجبال، وهم كانوا بمعظمهم من المسيحيين في شمال العراق (بما فيه كردستان)، وشمال غرب إيران وجنوب شرق تركيا.
وبالرغم من تهميشه، بقي العالم المتكلم باللغة الآرامية صامداً، ولو أن الحرب العالمية الأولى ومجازر العثمانيين قد طردت بعضه من أماكن عيشه ووزعته في أنحاء متفرقة من الأرض. اليوم، أصبح للآراميين أرض شتات، في تركيا والأردن وروسيا، كما في مجتمعات جديدة كميتشيغن وكاليفورنيا وشيكاغو الأميركية. ويقسم اللغويون ما تبقى من اللغة الآرامية الحديثة إلى أربعة أقسام: الغربية، والوسطى والشمال شرقية، والمندائية الجديدة (أو الفرع الآرامي الشرقي).
وبالنسبة إلى الآرامية الغربية، فإن عدد المتكلمين بها تقلص كثيراً مع الزمن، كما المناطق التي تحكيها، وهي خصوصاً بلدة معلولا في سوريا وقريتان محاذيتان لها، غرب دمشق، حيث يشير إحصاء في العام 1996 أن هناك 15 ألف متحدث بالآرامية في هذه المنطقة. وفي العام 2006، افتتحت جامعة دمشق أكاديمية لتعليم اللغة الآرامية، ولكن لا يعرف مصيرها اليوم مع اندلاع الحرب في سوريا، كما تهجر آلاف المتحدثين بهذه اللغة من أمكنتهم الأصلية إلى أخرى، كما حصل في معلولا.
في سوريا، يقول عماد ريحان، وهو مدرّس للغة الآرامية في الأكاديمية في دمشق إنه «كان لديه الكثير من الأمل في إحياء لغته، ولكنها تبخرت مع الحرب»، مضيفاً أنه «في خضم ما يجري لبلدي، لم تعد المحافظة على اللغة من أولوياتي.. لقد خسرناها، كما أن قلة من الأطفال اليوم يستطيعون التكلم بها».
وإذا كان من أمل لعودة اللغة التاريخية إلى معلولا، كما يقول عالم الالسنيات ويرنير أرنولد، فإن الأمل ضعيف بالنسبة لها في العراق. هناك، تقلص عدد المسيحيين كثيراً منذ العام 2003، بالرغم من أن سهول نينوى كانت لا تزال بمأمن حتى وقت قريب عن هجرتهم.
اليوم، يسيطر «داعش» على مناطق المسيحيين في العراق. «الخطر على آخر معاقل المتحدثين باللغة الآرامية الحديثة كبير جداً»، يقول اللغوي جيوفري خان، مشيراً إلى أن المنطقة «تعج بعشرات القرى التي تتحدث الآرامية، والتي لكل منها لهجتها الخاصة».. «إنه أمر شبيه بكارثة الحرب العالمية الأولى التي شتتت الملايين»، يختم خان، مضيفاً أنه «من دون نينوى، من الصعب اليوم أن تبقى هذه اللغة حية».