ويوظف التنظيم العابر للحدود تنوع جنسيات مواليه في خدمة أعماله القتالية. مسلحوه الأجانب يجتمعون عموماً في كتائب مؤلفة من حاملي الجنسية ذاتها، وهو أمر يرتبط أساساً بالحاجة إلى تسهيل التواصل على أرض المعركة
لم يكن وزير الخارجية الأميركية جون كيري يبالغ حين اعتبر، قبل شهرين، أن خطر «الدولة الإسلامية» يتجاوز سوريا والعراق ليطال كلاً من الولايات المتحدة وأوروبا. فكلامه، وإن جاء ليُعنون رغبة بلاده بتوظيف الخطر لولوج البوابة العراقية بمظهر جديد، إلا أنه يعكس خلاصة ما دار في كواليس أجهزة استخبارات الدول الغربية الكبرى على مدى عام ونيّف على الأقل.
منذ حزيران 2013، تتوالى اجتماعات مسؤولين سياسيين وأمنيين غربيين للتباحث في سبل درء مخاطر «جهادييهم» المقاتلين في سوريا، إذا استطاع هؤلاء العودة إلى ديارهم، أو تمكنوا من اختراق أمنها من بعيد، عن طريق تجنيد المتطوعين وتأسيس الخلايا النائمة.
بعد ثلاثة اجتماعات موسعة، في مطلع العام 2014 تحديداً، أفصحت المفوضة المكلفة بالشؤون الداخلية للاتحاد الأوروبي، سيسيليا مالستروم، عن مخاوفها على الملأ. قالت إن الوقت لا يعمل في مصلحة الاتحاد، وإن دوله تحتاج إلى «ابتداع أساليب للعمل الوقائي»، قبل فوات الأوان. كان هذا قبل أن يعلن أبو بكر البغدادي خلافته التي تفيض عن بلاد الشام والرافدين معاً.
بضعة أسابيع فقط تلت الإعلان المذكور ليرتفع بعدها منسوب القلق الأوروبي ويُعبَّر عنه جهاراً: منسق شؤون مكافحة الإرهاب في الاتحاد، غيلز دي كيرتشوف، يؤكد أن استخبارات دول القارة تدقق في كل صغيرة وكبيرة، ويعلن، في الوقت عينه، أن تنظيم «الدولة» بدأ الإعداد لهجمات محتملة في أوروبا.
لم تُعلن أرقام رسمية دقيقة تفصّل أعداد المقاتلين الغربيين في سوريا. إذ يتراوح عدد الأوروبيين، وفق تقديرات متفاوتة، بين ألفين وخمسة آلاف. وهؤلاء بعض ما يزيد عن أحد عشر ألف «جهادي» أجنبي في البلاد، معظمهم ينتظمون في صفوف تنظيم «الدولة الإسلامية».
ويوظف التنظيم العابر للحدود تنوع جنسيات مواليه في خدمة أعماله القتالية. مسلحوه الأجانب يجتمعون عموماً في كتائب مؤلفة من حاملي الجنسية ذاتها، وهو أمر يرتبط أساساً بالحاجة إلى تسهيل التواصل على أرض المعركة وتجاوز حاجز تعدد اللغات. بيد أن الإفادة على المدى الأبعد، تتصل بعمل هؤلاء العناصر في شبكاتٍ يختص كل منها في تجنيد المقاتلين من بلادهم الأم، وفي العمل في هذه البلاد متى اقتضت الحاجة ذلك.
حتى اللحظة، ما زال معظم العواصم الغربية يتفادى إعلان المواجهة مع «داعش» على الملأ قبل أن تنضج الظروف. واشنطن، تحديداً، تبدو كمن يرغب في أن تأخذ الحرب شكل قضم متدرج لقدرة التنظيم على الحركة والفعل، وكمن يفضل أن يكون اللاعبون الإقليميون في واجهة الاشتباك حتى لا تصاب بشظاياه، على أن تكون هي، في الوقت ذاته، على رأس الكاسبين.
ولتلك النتيجة المركبة ميزان دقيق يُعمَل على إنجازه بهدوء، حتى تتقلص احتمالات الفشل في إقليم يعج بالحسابات. أسلوب التعامل مع الأكراد في شمال العراق اليوم مثال على ذلك. فالأخيرون ليسوا واحداً. وداعموهم، الأميركيون تحديداً، يدركون ذلك ويتعاملون على أساس هذا الإدراك. إذ بينهم «بشمركة» البرازاني، حليف واشنطن الوثيق، ومنهم أنصار «حزب العمال الكردستاني» الذين يخوضون معاركهم جنباً إلى جنب مع الجيش السوري ضد المعارضة المسلحة، وهم الذين تتحسس منهم أنقرة خاصة، علماً أن حسابات دعم الأكراد تتصل أيضاً بالخشية الغربية من اندفاعهم نحو إعلان استقلال، يؤسس لتوتر جديد في منطقة حافلة بالقضايا العالقة.
في المبدأ، يؤدي أسلوب الخنق وإيكال مهمة الالتحام المباشر للاعبين إقليميين إلى إطالة أمد المواجهة مع «داعش». لكنه لا يحول دون إعلان «ساعة صفرٍ» لإطلاق عمل عسكري مشترك، تتضافر فيه جهود إقليمية ودولية للإجهاز على التنظيم بالضربة القاضية، برغم أن التجارب السابقة مع «القاعدة» وفروعها تُظهر صعوبة صرع جماعات «الجهاد العالمي» في منازلة واحدة.
ولأن الحكومات الغربية تأخذ هذه الصعوبة بالاعتبار، تطلق معركة أقرب ما تكون إلى التمهيدية لحربها على التنظيم. تحاول قطع شرايينه ووقف امتدادها، فتعمد، في الفضاء الافتراضي، إلى طلب إقفال حسابات مؤيدة لـ«الدولة الإسلامية» على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي الفضاء الحقيقي، إلى الإغارة على جحافلها المتقدمة نحو كردستان العراق.
أما في مجلس الأمن، فتحسم عبر القرار الصادر أخيراً بجمع «داعش» و«النصرة» في بوتقة واحدة، بعدما حاول حلفاء لها في المنطقة، على مدى أشهر، تسويق فكرة احتواء «النصرة» واستخدامها لضرب «الدولة الإسلامية». إذ تدرك عواصم الغرب أنها، بذلك، تقطع الطريق أمام تحول بعض مجموعات «النصرة» إلى رديف لـ«داعش» أو متنفس لها، بعدما كثرت الانشقاقات في الأخيرة، وبدا الخروج من جيبها إلى جيب «الدولة» سهلاً لقلة الفوارق العقائدية بين الجماعتين.
ترسم الدول الغربية سياساتها حيال خطر وحش «داعش» الوليد بهدوء. لا تستعجل الخطى حتى لا تزلّ قدمها وينفذَ الزئبق «الجهادي» من ثغرة فاتها إغلاقها. تبقي في ذهنها مجموعة من الروايات والأسماء ذات الدلالة: أبو هريرة الأميركي، أول انتحاري من بلاده في سوريا. أبو طلحة الألماني، مغني «الراب» الذي توّجتهُ «داعش» أميراً على الحسكة ثم أردته «النصرة» بتفجير انتحاري. أبو عيسى الأندلسي، لاعب فريق «أرسنال» الإنكليزي لكرة القدم الذي ضمه فريق «الدولة الإسلامية». أبو البراء البلجيكي، أمير «الدولة» في سراقب الذي قضى تاركاً خلفه نحو مئتين من مواطنيه المهيئين للانفجار... وعلى المنوال ذاته سار غيرهم ممن كانوا من نسيج مجتمعاتهم قبل أن ينقلبوا عليها.
تدق الساعة في أروقة أجهزة الاستخبارات الغربية ببطء. يظهر الخطر في أوروبا أوضح بكثير مما هو في الولايات المتحدة. سبق للقارة العجوز، التي لا يفصلها عن المشرق المتفجر سوى بحرٍ متوسط، أن ذاقت طعم 11/9 مصغراً في مدريد ولندن.
تدق الساعة ببطء ومعها عدادات العبوات المزنرة لأجساد الانتحاريين. هكذا يفكر تنظيم «الدولة الإسلامية». أو هذا ما يريد لخصومه أن يظنوا، حتى يخلق بينه وبينهم حاجز إرهاب، يعطيه مزيداً من الوقت للحياة.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه