ليس في وارد الثورة الشعبية الثانية التراجع عن أهدافها الثلاثة المعلنة، وهذا يعني أن القيادة السياسية مطالبة بالتفاعل مع هذه المطالب، ولن يخرج تفاعلها عن ثلاثة احتمالات تشكل في مجملها سيناريوهات التصعيد المقبلة.
عبدالله علي صبري
تشهد الساحة اليمنية حراكاً شعبيا متصاعداً منذ 3 أسابيع جراء رفع الدعم عن المشتقات النفطية وتحرير أسعار مادتي البنزين والديزل، ما انعكس سلباً على معيشة المواطن اليمني الذي وجد نفسه في الشارع مكشوف الظهر بعد أن توافقت غالبية الأحزاب السياسية الفاعلة على الجرعة السعرية ولاذت البقية منها إلى الصمت.
عشية الاثنين الماضي أمهل سيد أنصار الله الحكومة خمسة أيام، معلناً عن خطوات تصعيدية تمثلت في تحشيد الثوار من مختلف مناطق البلاد إلى أمانة العاصمة، ونصب خيام الاعتصامات في عدد من الساحات، وتحريك المسيرات اليومية، مع التهديد بتصعيد جديد يعلن عنه الجمعة المقبلة في حال لم تستجب الحكومة ورئيس الجمهورية للمطالب الشعبية التي حددها الحوثي في ثلاث نقاط رئيسة: التراجع عن الجرعة السعرية، إسقاط حكومة الوفاق، وتنفيذ مخرجات الحوار الوطني الشامل.
ثورة 11 فبراير
شكل الربيع العربي الذي وصلت رياحه إلى اليمن فرصة لمختلف القوى التي تنشد التغيير السلمي، فوجدت نفسها ضمن الحراك المدني العام الذي استوعبته الساحات الثورية في العاصمة ومختلف محافظات الجمهورية، وتوحدت جميعها تحت سقف هدف واحد، في ظل قيادة شبابية ملؤها الإيمان بالقضية الوطنية، وبضرورة التغيير مهما بلغت التضحيات. وكانت المفاجأة أن حركة أنصار الله وهي قوة كانت خارج الحسابات السياسية، وجدت في الثورة الشعبية فرصتها هي الأخرى للتعبير عن مشروعها الثقافي ورؤيتها للدولة المدنية المنشود تحقيقها إثر إسقاط النظام.
وحظيت مشاركة الحوثيين في المسيرات والإعتصامات السلمية بقبول شعبي كبير بعد أن كان الرأي العام يرى فيهم مجرد جماعة مسلحة تلوذ إلى العنف في مجابهة خصومها والرد على أي عدوان يستهدفها.
جدل المبادرة الخليجية
دخلت الثورة الشعبية منعطفا حرجا مع إعلان انضمام القائد العسكري علي محسن الأحمر للثورة في مارس 2011، ورغم أن محسن كان رأس الحربة في حروب صالح المتوالية على الحوثيين منذ 2004، فإنه لم يصدر عن الحركة موقف متشدد تجاه انضمامه، واكتفوا بمطالبة الجنرال بالاعتذار عن تاريخه الدموي، لكنهم لم يجعلوا من هذا الطلب شرطاً لبقاء عناصرهم في الساحات.
لقد ساعدت اللغة العقلانية التي طبعت الخطاب الحوثي منذ اندلاع الثورة على تمدد الجماعة وانتشارها في مناطق كانت مغلقة على أحزاب وتيارات محددة، وكما حظيت كلمات الناطق باسم الجماعة محمد عبد السلام بترحيب كبير من قبل الشباب في ساحة التغيير بصنعاء، فإن المفاجأة أن شباب عدن وتعز في وسط وجنوب البلاد عبروا عن مشاعر مماثلة إزاء الجماعة وكلمات الناطق باسمها.
وهكذا بدت الأوضاع مهيأة باتجاه بلورة المشروع السياسي للجماعة، لولا أن إعلان التسوية السياسية وفقاً للمبادرة الخليجية، وإعلان الجماعة معارضتها لها، قد أقحم الحوثيين في صراع مع القوى التقليدية المنضمة للثورة ومع شباب حزب الإصلاح ( الإخوان المسلمين)، ومع السلفيين، وهو ما انعكس على علاقات الثوار فيما بينهم وبالذات في ساحة التغيير بصنعاء، التي شهدت اختلافاً بين الشباب على إدارة المنصة، وعلى الموقف العام من التسوية السياسية ومن الحصانة لرموز النظام السابق، وصولاً إلى تبادل الاتهامات والتراشق الإعلامي.
النزوع إلى الواقعية السياسية
مما لا شك فيه أن تباين مواقف القوى الثورية أثر سلباً على الزخم الثوري في الساحات، ما سمح للتسوية السياسية بالمضي قدماً في ظل الرعاية الدولية والإقليمية، فقد تسلم نائب الرئيس صلاحيات الرئاسة، وتشكلت حكومة وفاق بالمناصفة بين المؤتمر والمشترك، وبدأت التهيئة لإجراء انتخابات رئاسية ( خالية من التنافس) وسط زخم شعبي كبير.
قاطعت مجاميع ثورية الانتخابات، وجرى التفاوض مع جماعة أنصار الله للسماح بإجراء الانتخابات في محافظة صعدة، وهو ما تم بالفعل، رغم موقف الجماعة المناهض للانتخابات.
وإثر الانتخابات الديكورية، جرى التفاوض مع الجماعة بهدف إشراكهم في التهيئة للحوار الوطني، وبالفعل فقد تشكلت اللجنة الفنية للحوار وضمت ممثلين عن أنصار الله، وهي التسمية الجديدة التي أعلنت عنها الجماعة وشاركت تحت يافطتها بمؤتمر الحوار.
الثورة مرة ثانية
بسبب الاختلاف بشأن مخرجات مؤتمر الحوار الوطني، وعدم التوافق بشكل كلي على ضمانات وآليات تنفيذ مخرجات الحوار، وبسبب حرب دماج وحاشد، واغتيال الدكتور أحمد شرف الدين في ختام مؤتمر الحوار، وجد أنصار الله أنفسهم في قلب المشهد الثوري مجدداً، مطالبين بإسقاط الحكومة، وتشكيل حكومة كفاءات وطنية ومحاسبة الفاسدين، في مطالب التف حولها جمع من القوى الثورية التي شكلت حملة 11 فبراير، ونظمت – ولا تزال- عددا من المسيرات في العاصمة صنعاء وفي محافظات أخرى.
وإذ لم تحقق الحملة هدفها المتمثل في إسقاط الحكومة، فإن التعاطي السياسي لأنصار الله مع المستجدات لم يخل من الواقعية أيضاً، فقد أعلنت الجماعة عن مساندتها لمخرجات مؤتمر الحوار الوطني، وإن تحفظت على بعض القضايا، كطريقة تقسيم الأقاليم ومعالجة القضية الجنوبية.
كانت الحكومة تعرف أنها تجازف، ولكنها ظنت أن دعم النظام السابق لهذه الخطوة سيخفف من ردة الفعل الشعبي، ولكنها لم تحسب أن للشعب رأياً آخر، فقد استجابت الملايين لدعوة أنصار الله وانخرطوا معهم في ثورة ثانية علها تكون بوابة التغيير المنشود الذي طال انتظاره.
سيناريوهات التصعيد
قبل نصف شهر، شهدت العاصمة صنعاء وعدد من المدن الكبيرة مسيرات غاضبة أطلق عليها أنصار الله عنوان " الإنذار الأخير"، وقبل خطاب السيد الحوثي الاثنين الماضي كانت القبائل اليمنية في محافظات صنعاء، مأرب، الجوف، ذمار، وصعدة قد تداعت إلى لقاءات قبلية موسعة كإنذار مضاف للحكومة، التي تعرف جيداً معنى تحريك القبائل المسلحة من حول العاصمة خاصة بعد أن غدت قبائل بكيل وحاشد.
ليس في وارد الثورة الشعبية الثانية التراجع عن أهدافها الثلاثة المعلنة، وهذا يعني أن القيادة السياسية مطالبة بالتفاعل مع هذه المطالب، ولن يخرج تفاعلها عن ثلاثة احتمالات تشكل في مجملها سيناريوهات التصعيد المقبلة:
الاحتمال الأول: الاستجابة الكلية للمطالب الثورية، وهذا يمثل الخيار المثالي للثوار ولأنصار الله، فالثورة هنا ستكون قد أنجزت مهمة اسقاط الجرعة والحكومة معاً، ويتبقي التحدي الأكبر ممثلاً في تنفيذ مخرجات مؤتمر الحوار وما تتطلبه من استحقاقات الشراكة الوطنية في الحكومة والهيئات الأخرى المعنية بتنفيذ المخرجات.
الاحتمال الثاني: الاستجابة الجزئية وتأزيم الثورة، وهذا خيار وسط، فتراجع القيادة السياسية بشكل جزئي عن الجرعة وتكليف رئيس جديد للحكومة تمهيدا للتفاوض حول تشكيلها، سيعني أن القيادة السياسية وضعت يدها على فتيل الأزمة، ورمت بالكرة إلى شباك أنصار الله، الذين سيجدون أنفسهم أمام مأزقين: إما الترحيب باستجابة القيادة السياسية وتراجعها جزئيا عن الجرعة، والدخول معها في تفاوض بشأن الحكومة، وهنا ستواجه الثورة وأنصار الله حملة سياسية وإعلامية تتهمهم بركوب الموجة الشعبية واستغلالها وصولا لتحقيق مآرب سياسية. وإما الرفض القاطع لأية حلول وسط، ما يجعل الثورة وأنصار الله عرضة لمختلف الضغوط السياسية والإعلامية داخلياً وخارجيا، وربما تظهر أصوات من داخل الثورة تطالب بأهمية التفاعل الإيجابي مع تجاوب القيادة السياسية، وتجنيب البلاد مخاطر التصعيد غير محسوب النتائج.
الاحتمال الثالث: الرفض الكلي للمطالب الشعبية، وهو السيناريو المشكل، فالرفض القاطع يعني المزيد من التصعيد، ورفع سقف المطالب إلى حد اسقاط النظام- وليس الحكومة فحسب- والتحرك الفعلي لإسقاط العاصمة سلمياً، أو بالعنف.
الخطورة هنا أن الرئيس هادي قد يستغل مساندة الدول العشر ويستفيد من قرار مجلس الأمن 2140 بشأن اليمن، الذي يسمح باستخدام القوة ضد " معرقلي التسوية السياسية وتنفيذ مخرجات الحوار"، بل قد يستخدم هادي ورقة انفصال الجنوب ردا على التصعيد الثوري ذي الصبغة الشمالية حتى الآن.
أما إن تجاوزت ثورة الشعب الثانية هذه المآزق، ونجحت في إسقاط النظام، فإنها ستجد نفسها في مواجهة تحدي بناء الدولة، وهذا موضوع من السابق لأوانه التحدث عنه.
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه