... المهم اليوم أن واقع الحال هو ما علمتم وذقتم. «داعش» هنا، دولة وجدت لتعيش طويلاً. وكل ما يحكى عن حروب آتية للقضاء عليها، هو مجرد محاولات بالتلمس لرسم حدود دولتها. حدود لا ترسمها إلا الخطوط الحمر التي وضعها السيد الأميركي
جان عزيز
... المهم اليوم أن واقع الحال هو ما علمتم وذقتم. «داعش» هنا، دولة وجدت لتعيش طويلاً. وكل ما يحكى عن حروب آتية للقضاء عليها، هو مجرد محاولات بالتلمس لرسم حدود دولتها. حدود لا ترسمها إلا الخطوط الحمر التي وضعها السيد الأميركي، لاعتبارات مصالحه ومصالح زبانيته. حدود يظهر منها حتى الآن خطان أحمران لا غير: أولاً عدم اقتراب دولة «داعش» من إربيل، حيث المصالح الاقتصادية والتفتيتية ونموذج «النيو – اسرائيل».
وثانياً عدم تسلل الخلافة الإسلاموية الجديدة جنوباً نحو الرياض وعائلتها المالكة، حيث المصالح الأخرى المشابهة. بين هذين الخطين، ستترك دولة «داعش» لتحيا وتعيش، أو لتقتل وتميت! علماً أن ذعر عائلة الرياض من «داعش» جدي. لا لأن السعوديين تذكروا تجربة بن لادن وحسب، ولا لأن تاريخ التخلّف يحب تكرار رواية المسخ الذي يأكل صاحبه فقط. بل لأن آلية قيام «داعش» تشبه إلى حد كبير تاريخية قيام مملكة تلك العائلة بين نجد والحجاز. هو الحلف نفسه بين تركيبة عشائرية وبين مؤسسة دينية. وهو الفكر المعلن نفسه، من ابن حنبل مروراً بابن تيمية وصولاً إلى ابن عبد الوهاب. وهي الآلية العملية نفسها: التمكين بالقوة، والتحصن بالدين، وصولاً إلى طلب البيعة. فما قام به أبو بكر البغدادي ليس غير مسبوق ابداً في هذا السياق وفي تلك المنطقة. وهذا ما يرعب العائلة السعودية. كمن يرى ذاته في المرآة. خوف أن ينتقل ناسهم من «الخادم» إلى «الخليفة» بكل سهولة وتلقائية، لأن الأصل نفسه والمرتكز نفسه، مع ممارسة عند البغدادي أكثر «فاعلية». وهذا ما يفسر توصيف «داعش» للحكام السعوديين بآل سلول! والعارفون بالأدبيات المقصودة يدركون صحة كل حرف مما سبق، ولو على صمت وبكم.
وسط كل تلك الكوارث، لم يعد أمام كل المنطقة، إلا لبنان، ونموذج لبنان. لا لأن عندنا بضع شجرات أرز ومعاملتين. بل لأنه «المكان» الوحيد في المنطقة حيث لا يزال مشروع «الإنسان» ممكناً. رغم تضاؤله وتراجعه وانكفائه وضحالة مائه. وحدها بيروت، من بين كل عواصم المنطقة ومدنها، لا تزال وطناً حيث لشاب أن يقبّل فتاة في ساحة. وهذه في حد ذاتها قضية إنسانية كبرى. وحدها بيروت تطلع وتحضن صحافة ومجتمعاً مدنياً يدافعان عن مثلية طبيعية، وعن كفر وإلحاد، باتا أكثر من طبيعيين وسط متديني هذا الزمن. وحدها بيروت تقدّم قلبها لنضال وخلود ليجمعا قلبيهما، فيتزوجا مدنيين، فيجسدا حقاً إنسانياً طبيعياً أصيلاً، من دون مدعي صفة دينية يتحكم بحبهما وبآلية الحب ونتائج الحب وعواقبه! وحدها بيروت لا تزال تملك بضع ذرات من حرية الضمير، ولو بلا نص. ولو كتبت تونس نص تلك الحرية، وهي تنازع بين موات «النهضة» وبين نهضة «الدواعش». وحدها بيروت هي الحل الممكن الآن. من أجلها، ومن أجل فلسطين، ومن أجل ما يفترض أن يكون إسلاماً أو مسيحية أو سواهما من أفكار الله أو ضده. ومن أجل الحرية في كل مدينة عربية. ووحده الحل في بيروت، نظام نقيض لكل ما في المنطقة، ولكل ما حولنا. نظام يصرخ زعقاً وفجوراً، أنه عكس «داعش» وعكس كل اشباهها ومشتقاتها والملحقات.
ولنكن صريحين، لقد ثبت كما سبق، بالذبح والسحل والقتل والحزّ، أن لا وجود إلا لمن يملك حق الشراكة في القرار وفي السياسة وفي السلطة وفي الدولة. فلا إبداع مسيحيي العراق، من الياس الموصلي إلى زها حديد، حفظهم في أرضهم. ولا دور طارق حنا عزيز مع صدام، علق في لاعقل الصداميين حلفاء «داعش»، حين هجروا أهل القيادي البعثي السابق، في الدين والصدامية أو الذمية. فلنعترف، لسوء الحظ، أنه لا يعيش في هذه الأرض إلا من كان فوقها لا تحتها، كما يردد حبيب أفرام. وفوق الأرض لم يعد ممكناً إلا في لبنان. وفوق الأرض هذا، في لبنان نفسه، لم يعد له غير صيغتين اثنتين ممكنتين، لا ثالث لهما:
الأولى، والفضلى والمثلى، أن يبادر المسيحيون، لا بل أن يسارعوا، إلى طلب إقامة دولة مدنية. وأن تكون كاملة شاملة لا استثناء فيها ولا تخيير. كما كل العالم المتحضر. دولة ترتكز على حرية الضمير. لا محاكم دينية فيها، ولا شرع دينياً، ولا أحوال شخصية انتقائية ولا دويلات تشريعية في قلب الدولة... ولا بالتالي طائفية سياسية ولا قوانين انتخابات مذهبية ولا محاصصات روحية. دولة مدنية شمولية حتى. تبدأ بقانون واحد موحد إلزامي لكل الأحوال الشخصية بلا استثناء. يبنى عليه إلغاء كل الطائفيات القانونية وكل الطائفيات السياسية. إذ لا مزحة سمجة واستغباء واستحماق، أن تسمح لأمي ما باسم إله ما، أن يتحكم بحياة المواطن، منذ ما قبل ولادته عبر زواج والديه، حتى ما بعد وفاته عبر إرث أولاده، ثم تطلب منه أن يكون في شأنه العام وشأنه الوطني مواطناً! دولة مدنية كهذه هي نقيض «داعش»، ونقيض اسرائيل، وعلة وجود لبنان.
أما الصيغة الثانية، في حال استحالة الأولى لأي سبب كان، فأن يقف المسيحيون، وأولهم بكركي، قبل أي شيء آخر أو تلهٍّ مغاير، ليطالبوا بإسقاط هذه المعادلة الكارثية لتطبيق الطائف. حيث لا مكان للمسيحي القوي في السلطة. فعلياً لا مكان له. وبالتالي لا دور ولا شراكة، ولاحقاً لا وجود. لا بل آتياً، تمهيد لكل نماذج الدواعش. الصيغة الثانية، أن يرفض المسيحيون، وأولهم البطريرك الماروني، هذه الصيغة الراهنة. وأن يرفض إجراء انتخابات نيابية أو حتى رئاسية. اتركوها كما هي الآن. سلطة تنفيذية توافقية فعلاً في مجلس الوزراء. كل وزير فيها أقوى من رئيس يراد له أن يكون الأضعف، كما جربنا وخربنا. اتركوها كما هي، حتى يفرض على هذه الصيغة التوافقية أن تخضع للمداورة في موقع رئاسة الحكومة. وعن جد، أفضل من رئيس يدار، أو يؤتى به على قاعدة تدوير الزوايا السياسية، فيتجلى قابلاً للتدويرعلى طريقة البقايا العضوية ...
إما دولة مدنية الآن، وإما شراكة الأقوياء في الرئاسة، وإما مداورة في السراي، وإما «داعش». لكم
الاختيار.
http://www.al-akhbar.com/node/213927
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه