تجربة سميح القاسم تكتشف ملحمة مقاومة الشعب الفلسطيني، فكانت الكلمات وشم على جسد التاريخ والشعر شاهد يعجن الكلمات في التجربة أو نقرأها في حاضرها الأدبي
رحل الشاعر العربي الكبير سميح القاسم ونحن كنا في امس الشوق لهذا العاشق للحياة والشعر وكل ما هو جميل ، رحل الشاعر العربي الفلسطيني الكبير ابن بلدة الرامه في ظل العدوان الاسرائيلي القائم على قطاع غزة.
عباس الجمعة/ خاص موقع المنار
ولكنه كتب عن الحرب على غزة وكأنه حاضر بيننا وفيها، وهذا هو الفرق بين شاعر المناسبات الذي امتهن وظيفة الشعر، وبين الشاعر العظيم الملهم ، اوالكاتب المبدع الذي يعيش نبض الشعب ويعايش قضايا امته ويشاركها الهموم والمصير .
اليوم يغيب الشاعر سميح القاسم وغزة تتصدى لعدوان ارهابي اجرامي ، حيث الزمن في غزة شيء آخر، لأن الزمن في غزة ليس محايدا، انه لا يدفع الناس الى برودة التأمل ، ولكنه يدفعهم الى المزيد من الصمود، هذا الزمن الذي يسكت فيه العالم العربي بصمت امام الجريمة التي ترتكب بحق هناك الاطفال والنساء والشيوخ، لأن القيم في غزة تختلف ، لانها لا تتباهى باسلحتها وثورتها ، انها تقدم تضحيات جسام، وتتصرف بارادتها وتسكب دمها ، وفلسطين لا تتقن الخطابة فهي تتكلم عرقا ودما وحرائق ، من هنا يقترف العدو سياسة القتل ، ولا يريد تهدئة بشروط الانتصار الذي تحقق بفعل انتصار الدم على السيف بانتصار الضحية على الجلاد فلسطين هي النموذج المشرق بمواجهة للاعداء لأنها كذلك ، فهي اجملنا واصفانا واغنانا واكثرنا جدارة بالحب .
لم تتحول فلسطين بوحدتها ومقاومتها الى وظيفة ، لم تقبل وصاية احد ، ولم تعلق مصيرها على توقيع احد او بصمة احد ، ولم يتحول جرح غزة الى منبر للخطابة .
من هنا فان تجربة سميح القاسم تكتشف ملحمة مقاومة الشعب الفلسطيني، فكانت الكلمات وشم على جسد التاريخ والشعر شاهد يعجن الكلمات في التجربة أو نقرأها في حاضرها الأدبي بوصفها تلخيصا مكثفا لتجربة الشعر العربي الحديث ، مزجت الغنائية بالرمزية وتشكلت في الأصوات المتعددة , سردت بالشعر وشعرنت النثر حاملة هاجس الحداثة العربية بوصفها جزءامن مشروع النهضة العربية ، ونقرأها في لغتها , حيث يأخذنا التبدل الذي طرأ على الشعر العربي إلى إعادة اكتشاف العلاقة الخفية بلغة الأجداد .
فنقرأ امتداداً لمثنّى امرئ القيس وقلق المتنبي داخل موسيقى جدلتها رؤيا جديدة بحيث صار الامتداد قطيعة لا تحيل إلى الماضي , بل تعطي الماضي معنى جديد داخل حاضر متغيّر ، أو نقرأها في عالمها , بوصفها جزءا من صوت شعري متعدد اللغات , صبغ القرن العشرين بصرخة الحرية، أو نقرأها بوصفها تجربة ذاتية كانت الذات فيها مرآة العالم , وكانت القصيدة مرآة الذات , بحيث استطاع الشاعر في صوته المنفرد , إن يفارق الصوت العام لحظة اندغامه به .
لذلك فهو عصّي على التحديد , وقادر على أن يصنع في المسافة بين المرآتين تلاوين لا حصر لها ، تتعدد القراءات لشعر سميح القاسم فهو في مراحله المختلفة وطبقاته ،تجربة اغتسال الكلمات بماء الشعر , أي تجربة اكتشاف دائم للكلمات التي تأتي موقعة بالتجربة ،معمودية الشعر, مثلما تتجلى في التجربة, لا لا يمكن فصلها عن فلسطين ، في ارض الضحية اكتشف الفلاح الذي فقد أرضه , إن الأرض الوحيدة التي يستطيع حراثتها هي اللغة ، صارت اللغة أرضه المؤقتة ,في انتظار أن تعود الأرض إلى لغتها .
وحين بدأ سميح القاسم يحرث لغته – لغتنا , وسط هذا العطش العربي , لم يجد أمامه سوى أن يغسل اللغة بالشعر , ويسقي الأرض بمائه , وتكتب نفسها في مكان سري يقع بين الأغنية والملحمة ،فحصل سميح القاسم على العديد من الجوائز والدروع وشهادات التقدير وعضوية الشرف في عدة مؤسسات، فنالَ جائزة "غار الشعر" من إسبانيا وعلى جائزتين من فرنسا عن مختاراته التي ترجمها إلى الفرنسية ، وحصلَ على جائزة البابطين وحصل مرتين على "وسام القدس للثقافة" من الرئيس ياسر عرفات، وحصلَ على جائزة نجيب محفوظ من مصر وجائزة "السلام" من واحة السلام، وجائزة "الشعر" الفلسطينية.
من هنا نرى ان الراحل الكبير آمن أن محبة الوطن لابد وأن تكون مقرونة بالصدق حتى يستطيع دائما أن ينهض ويبقى ضد كل احتلال غاشم. فهو من حاول التحرر من رؤية القيود ومن عبئ الجمهور ، يكتب عن فلسطين الأرض ويدخلها إلى ذاته الخاصة ليعيد اكتشافها من جديد فحملت أشعاره لونا من الغضب الثوري الذي أدرك جيدا المسافة ما بين القصيدة السياسية المفتعلة وذات الصوت العال، ومابين القصيدة التي تنتمى لقضية وتعبر عنها، وتمزج الخاص بالعام لتخلق فنا شعريا قادرا على تحدى الحدود للتعبير عن قهر الضحية.
في هذه اللحظات المليئة بالأسى، ونحن نودع شاعرنا الكبير سميح القاسم، نرى الحزن مرسوما على خريطة فلسطين، ونشعر بفداحة الخسارة التي جاءت تتويجا في زمن الصمود الفلسطيني امام الة الدمار والحرب الصهيونية ، وسيبقى شاعر الحلم والمعنى في أرضهم شاعر الجليل في أن يعانق أرض الجليل في بلدة الرامة ويستريح في المكان الذي شهد ولادته الشعرية، وملأ قصائده بعطر اللوز والزيتون، يحق لإبن الرامة أن يدفن في أرضه، ويجب أن لا يكون في مقدور أحد أن يمنع هذا الفلسطيني الكبير من العودة الأخيرة الى بلاده.
ختاما : نفتقد سميح القاسم في هذا الزمن الردئ ، لنقول سيبقى سميح القاسم ومحمود درويش، وتوفيق زياد نجوما فلسطينية، وعربية مبدعة، وعلى رأس شعراء المقاومة الفلسطينية في القرن العشرين ويحق لأبناء الشعب الفلسطيني أن يفخروا بهم، وعليهم أن يعلموا أولادهم أشعارهم ليرددوها في مناسباتنا الوطنية والاجتماعية ولتكون مرجعا تاريخيا لصمود شعب فلسطين وإصراره على المقاومة، ولنغني معا نحن الآباء والأجداد مع أولادنا، وأحفادنا ما غناه مارسيل خليفة وجوليا بطرس لسميح القاسم.