نجد أنفسنا كلبنانيين أحوج من السنوات الخمس والثلاثين التي مضت، لمخاطبة الرجل الهامة الذي زرع فينا قيمة إنسانيتنا
أمين أبوراشد
حتى لو حالت الأوضاع الأمنية دون إحياءٍ جماهيريٍ حاشد لذكرى تغييب سماحة الإمام موسى الصدر التي تُصادف في الحادي والثلاثين من آب/أغسطس، فإننا هذه السنة بالذات ووسط أجواء الغمام التكفيري الخانق، نجد أنفسنا كلبنانيين أحوج من السنوات الخمس والثلاثين التي مضت، لمخاطبة الرجل الهامة الذي زرع فينا قيمة إنسانيتنا بقوله:" الإيمان بالإنسان هو البُعدُ الأرضي للإيمان بالله، مما يستوجب حضوراً ساخناً لهذا الإنسان في المشروع الوطني العام الى جانب مشروعه الديني".
وطالما أننا مختلفون في الدين ليس على الدين، بل بين من يعتبر الدين كائناً ما كان، منهَل تفكيرٍ ونهج حياة مع الآخر، وبين من يعتمده حِجَّة تكفيرٍ لهذا الآخر.
وطالما أننا مختلفون على نهائية الوطن وحدوده وسيادته وكرامته مع من يعتبر الوطن "سنجقاً" من دولة الخلافة بحدودٍ مشرَّعة للتكفير العابر للحدود.
وطالما أن السيادة والكرامة مسألتان فيهما نظر، لدى فريقٍ باتت الرؤية لديه بحاجة لإعادة نظر، فإننا نعترف أننا لا نستطيع مقاربة هذا الآخر بنظرته، لأننا ارتضينا وطناً على صورة ومثال الإمام الصدر وعلى صورة من سار على هديه ومن قاربه في شمولية إنسانيته العابرة للأديان، ونستذكره في قوله: "ما أقوله في المسجد أستطيع ترداده في كل مكان"، وكانت له فعلاً خطبته الشهيرة من على مذبح كنيسة الكبوشيين في بيروت عام 75، وجاءت لبنانيةً وطنيةً جامعةً، ونزِلت على المؤمنين كما الصلوات.
ولعل شعورنا كلبنانيين بالسلام الداخلي مع مدرسة الإمام الصدر يتكرر، كلما اختتم سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله "البسملة والحمدلة" في إطلالاته، بالصلاة والسلام على كافة الأنبياء والمُرسلين، ونقرأ ببداية الإطلالة وفي صلب موضوعها وفي ختامها ثقافة مدرسةٍ هي امتدادٌ لإرثٍ إنسانيٍ عظيم لا يؤتمن عليه سوى الكبار، تماماً كما لا يؤتمن على وطنٍ وشعبٍ سوى الكبار ومن قاربهم في الفكر الإنساني الشامل.
ليس إحياء الذكرى السنوية، أكثر من مناسبة للتذكير بقضية الإمام الصدر لأن التصعيد في هذا الشأن مطلوبٌ لكشف مصيره، لكننا نُحيِيه بذاكرتنا كل يوم منذ تغييبه، لأنه حاضرٌ بثقافته الإنسانية والوطنية، من خلال جزئية بسيطة نقتطفها ممَّا كُتِب عنه في آلاف الوثائق والمقالات:
"في حركته أتاح الإمام الصدر لجمهور الناس أن يعبِّروا عن احتياجاتهم بعيداً عن لعبة التوازن والتفاوت الطائفي والمناطقي، وكشف لهم آفاق الإيمان والثقافة والإجتماع والسياسة، مندفعاً من أجل تحريرهم من جملة ما يُعانونه من استلابٍ وتهميشٍ وحرمان، عن طريق تأصيل أدوارهم الإجتماعية والسياسية والإقتصادية، وحدَّد المرض في لبنان ولخَّصه بأربع معضلات:
- غياب العدالة في حقل التنمية والفُرَص.
- تأجيل القضايا الوطنية الكبرى وعدم البحث في حلِّها.
- أسلوب العمل السياسي في لبنان.
- البلاء بعدوٍ يشنُّ حروباً متنوِّعة ضدَّ لبنان وأهمها الحرب النفسية".
واليوم وفي الذكرى السادسة والثلاثين لتغييب سماحة الإمام الصدر، نجد من الواجب أن نُجِيب عمَّا أنجزنا لحلِّ المعضلات الأربع، لنعتذر بداية عن استمرار غياب العدالة في حقل التنمية والفُرَص، لأننا لم نبنِ حتى الآن دولة دستورها العدالة، ولأن البعض تاه في زواريب التمترس على الوطن، يحاول أن يبني من خلالها وطناً على قياسه، وعَجِزنا عن وضعِ كتابِ تربيةٍ وطنية، تماماً كما اختلفنا ونختلف على وضعِ كتاب التاريخ.
في تأجيل القضايا الوطنية الكبرى وعدم البحث في حلِّها، فإننا اختلفنا على "الكبرى"، لأن أولى الكبائر أن يغدو السلاح الشريف المقاوم الذي أعاد السيادة والكرامة إلى اللبنانيين وكأنه موازٍ لسلاح ميليشيات في زواريب النزاعات، ولأننا على العدو اختلفنا، وعلى الصديق ما توافقنا، ولأن الرجوع للشعب والوقوف على رأيه والإحتكام إليه بات معصيةً، والديموقراطية التوافقية غَدَت محاصصة، ولأننا عند كلِّ مفصلٍ انتخابي نلجأ لمن يتبنَّانا من الخارج، فستبقى قضايانا الكبرى يا سماحة الإمام عالقة بانتظار الكثير الكثير من التفاهمات.
في أسلوب العمل السياسي، لا نخجل الإقرار أنه بات إرثاً، في دولة ما كانت يوماً بحجم الوطن وهموم شعبه، وإذا كانت السياسة هي في حسن إدارة الشأن العام لدى سماحة الإمام الصدر، وفي احتضان الشعب ضمن معركةٍ ضد الحرمان والظلم والإستعباد المعنوي والمادي، فإن هذا الأسلوب ليس قابلاً للتغيير في المدى المنظور قبل أن نُرسي الوطن على أسُسِ المواطنة والعدالة الإجتماعية التي تُنصِف كل محرومٍ من الخدمات البديهية الواجبة على الدولة.
ختاماً، نختتم بعدوٍّ اعتاد أن يَشُنَّ الحروب على لبنان، لنطمئن سماحة الإمام الصدر أن مدرسته انتصرت على كل إرثِ خذلانٍ عربي، وعلى كل استكبارٍ صهيوني، وكان لها شرف الإنفراد بسحقه وتأديبه، والداء الذي نهش من كرامتنا على مدى عقود بات له دواؤه الناجع، وبات لدى هذا العدو هاجسٌ إسمه حزب الله يقضّ مضاجعه، ومقاومة من مؤمنين صهروا فولاذ دباباته وأسكنوه الملاجىء، وانتشرت ثقافة مدرسة المقاومة اللبنانية في فلسطين، وها هي غزَّة طَبقت "مناهجها" وانتصرت، وبارك الله وحفِظَ سيِّد هذه المدرسة وسيِّد المقاومة اللبنانية، الذي رفع سُبابته في يوم القدس وبشَّرنا أن غزَّة منتصرة لا محالة، لكن إذا كانت الحرب مع هذا العدو قد حُسِمت وأية حرب قادمة ستُحسم طالما نحن نمتلك الإيمان والإرادة ونتقن لغة الصواريخ، فحسبنا الله ونِعم الوكيل بعدوٍ لنفسه ولنا حملته إلينا كُثبان ما يُسمَّى "بربيع العرب"، يبشِّر بثقافة التكفير نحراً وذبحاً وتنكيلاً وتشريداً للأبرياء تحت ستار الدين، وليطمئن سماحة الإمام الصدر، أن المقاوِم الذي صهر فولاذ العنصرية الصهيونية لن تقوى عليه هياكلٌ من رمال تسكنها شياطين تكفيرية لا مكان لجهلها في ثقافتنا، ولا موطىء قدمٍ لدويلة "الخلافة" المزعومة في وطنٍ حرَّره واستعاد كرامته رجالٌ بقيادة سيِّد المقاومة وسيِّد الرجال...