25-11-2024 03:46 PM بتوقيت القدس المحتلة

العرب في حيرة أم شلل؟

العرب في حيرة أم شلل؟

مضت أربعون سنة تعرضت مصر الرسمية خلالها لعملية غسيل مخ، لتخرج بعدها دولة مقتنعة ومؤمنة ومعبأة بفكرة أنها جزء سياسي وأساسي من «سُنة « الشرق الأوسط.

داعش في سورياترددت أخبار عن أن واشنطن تدرس التدخل عسكريا في سوريا لقصف مواقع «داعش» فيها. أنا شخصيا لا استبعد أن تكون هذه نية واشنطن وأن قرارا بهذا المعنى سوف يصدر قريبا. 

جميل مطر/ جريدة السفير

اتصور أن النظام الحاكم في سوريا سيكون سعيدا بهذا القرار، متمنيا، إن لم يكن بالفعل مطمئنا، إلى أن مجالات القصف لن تشمل قواعد عسكرية للنظام السوري، وفي ظني أن الأميركيين لن يقدموا بعد الآن على تدمير جيش سوريا، ولا أي جيش عربي آخر. من ناحية أخرى لا اعتقد أن تركيا وأطرافاً عربية مهمة، ليس بينها مصر، ستكون سعيدة بهذا القرار.

لا أحد، ربما باستثناء بعض الأجهزة الاستخباراتية الدولية، يعرف على وجه اليقين النوايا الحقيقية والكلية لبعض حكومات المنطقة، تجاه تطورات موضوع «داعش». كان سلوكا غريبا جدا ولافتا لنظر العالم الخارجي أن تنتظر الحكومات العربية اجتماع مجلس الأمن الدولي، لتعلن شجبها وإدانتها باللهجة نفسها التي استخدمتها دول من خارج الشرق الأوسط، دول لم تتأثر مباشرة بغزوات «داعش». بل إنها لم تقرر أن تجتمع، ولو بعدد صغير، من أجل هذا الموضوع وإن تحت عنوان مختلف إلا بعد مرور وقت طويل.

هذا الموقف، أو اللا موقف، العربي، كان له مغزاه في عواصم غربية، خاصة في واشنطن ولندن وباريس. المغزى في رأيي، وفي ما سمعت، لم يخرج عن زيادة تأكيد لقناعة غربية، بأنه لا أمل يرجى في أن يشارك العرب بإيجابية وإبداع وبثقة في النفس والمصير، في صنع المرحلة القادمة من مراحل تطور إقليم الشرق الأوسط.

مرة أخرى تتأكد ثقة الغرب في عجز الطبقات الحاكمة العربية عن اختيار صيغة «عربية « لنظام يجمعهم. ما زال الحكام العرب في انتظار نظام يأتيهم من قوى خارجية، كانت في التجربة السابقة قوى غربية، وقد يضاف إليها في التجربة القادمة دولتان إقليميتان غير عربيتين. وتتردد اجتهادات، من بينها أنه سيكون منطقيا أن يوضع في الاعتبار عند الاختيار ما قدمته الدول من جهود خلال المرحلة الراهنة، مرحلة فك الحصار الإرهابي عن المنطقة.

من مظاهر الحيرة العربية، أو لعله الشلل العربي، اختلاف رؤى العواصم العربية حول أسباب عودة أميركا إلى التدخل عسكريا ـ ولو من الجو ـ في العراق. يهمس مسؤولون في عواصم بعينها، «إنه الإلحاح العربي على ضرورة التدخل العسكري الأميركي مع وعود قوية بدعم عربي مالي واستخباراتي، وبقرارات تأييد من جامعة الدول العربية». يصرح آخرون أن الأميركيين عادوا يتدخلون لأغراض إنسانية، وأن أوباما لم يكن يستطيع أن يتجاهل الأعمال الوحشية في شمال العراق فيكرر تجربة الرئيس كلينتون عندما تجاهل عمليات الإبادة الجارية في رواندا. هكذا يجري تبرير تدخل أوباما لإنقاذ أقليتين عراقيتين حاصرتهما قوات «داعش» وهددت بإبادتهما، هكذا أيضا يجري تبرير عدم التدخل حتى الآن في سوريا، فـ«داعش» لم تنفذ هناك عمليات إبادة ضد أقلية من الأقليات.

ما لا تتحدث فيه أو عنه العواصم العربية، هو أن هذا التدخل الأميركي، وهو الثالث أو الرابع، يقع لأن شمال العراق غني بالنفط، على عكس الحال في رواندا التي تخلت عنها «الإنسانية الأميركية» أو سوريا التي لم يتخذ بعد قرار بشأن التدخل فيها.

جرائم داعش لم تعد تخفى على أحدكثيرون لم ينتبهوا إلى ما نشرته صحيفة «ميامي هيرالد» في هذا الشأن، عندما ذكرت أن جهاز الاستخبارات الأميركية (CIA) يحتفظ في ضواحي مدينة أربيل الكردية بقاعدة تجسس وتنصت، لعلها من بين الأكبر والأقوى في الشرق الأوسط، ومخصصة لتغطي كل الاتصالات التي تنتقل عبر الفضاء الإيراني.

هم أيضا، وأقصد بعض العرب وخاصة المسؤولين بينهم، في حيرة، وربما شلل، حول موضوع العلاقات الإيرانية الأميركية. الجديد في هذا الملف هو تصعيد التفاهم إلى حد كاد يقترب من أن يصير تحالفا وإن في قضية محددة، هي وقف تقدم «داعش» في العراق.

تبدأ الحيرة هنا، إلى أي مدى الطرفان مستعدان للذهاب، وإلى أي عمق مستعدان للغوص. لم يكن غريبا والحيرة على ما هي عليه أن تقرأ عن دور «يتعين» أن تقوم به إيران قريبا لتسوية «المسألة السورية» بعد أن ساهمت في جهود تسوية «المسألة العراقية»، وعن دور أساسي في فك الجمود في الساحة اللبنانية، وتحريك مختلف الأطراف اللبنانية نحو مصلحة مشتركة. مرة أخرى يستعد أهل الخارج لتسوية «مسائل عربية « في غياب العرب، فكان أن اجتمع عدد صغير من وزراء الخارجية العرب قبل أيام. حسب علمي، لم يخرج عن الاجتماع ما يشير إلى أن «تسوية عربية» للمسألة السورية صارت جاهزة وعلى وشك أن تعلن.

ما زال في بعض العواصم العربية من لم يفهم بعد طبيعة مصر، والدور الذي تستطيع أن تلعبه منبثقا من طبيعتها وليس متضاربا أو متناقضا معها. مضت أربعون سنة تعرضت مصر الرسمية خلالها لعملية غسيل مخ، لتخرج بعدها دولة مقتنعة ومؤمنة ومعبأة بفكرة أنها جزء سياسي وأساسي من «سُنة « الشرق الأوسط. حاولوا أيضا، بمختلف أدوات الدعوة والإرشاد والتوجيه والتمويل، فرض طبيعة جديدة محل طبيعة مصر وشعبها.

اختاروا لمصر اعتناق نهج متشدد من أفكار السنة وممارساتها، في محاولة جريئة ونموذجية لتغيير معتقدات شعب وطريقة حياته والعلاقات بين أفراده وعلاقات دولته بالدول الأخرى. لم يتحقق كل ما أرادوا، بل فشلوا. الآن يدفع المصريون ثمن استسلام العديد من أفراد نخبهم الدينية والسياسية لغزو أفكار ومشروعات وهبات وهدايا موقعة بخاتم «السُنة المتطرفة».

أخطأ هؤلاء، واتباعهم ومريدوهم من المصريين، حين حاولوا إجهاض ثورات الربيع العربي. كانت الثورات متواضعة الأهداف، تطالب بحريات وحقوق وعدالة في التوزيع. أجهضوها فخرجت من أحشائها جحافل من شباب لم يعد يثق في الإصلاح والعمل السلمي الهادئ. لا يؤمن الآن إلا بالتشدد والتطرف. لا يؤمن إلا بالقتل والإبادة والقضاء نهائيا على كل رموز للطبقات الحاكمة العربية. يدمر وينهب ويذبح ويقيم الخلافة.

أخطأوا مرة ومرات، ولم يعترفوا بالخطأ. وها هم يكررون خطأ كلاسيكيا التصق بهم والتصقوا به عبر العقود. ها هم يمتنعون، حيرة أم شَلَلًا، عن اتخاذ قرار «عربي» في شأن مصير النظام العربي، تاركين أمر المصير لدول غير عربية.

حيرة مزمنة أم فشل محكم.

موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه