24-11-2024 05:50 AM بتوقيت القدس المحتلة

فضل الله: التيارات الإقصائية والإلغائية تستهدف المسلمين والمسيحيين معاً

فضل الله: التيارات الإقصائية والإلغائية تستهدف المسلمين والمسيحيين معاً

جب أن نضع فاصلاً موضوعياً بين المسيحية الدين والكنيسة، التي حرصت على أفضل العلاقات مع المسلمين، والمسيحية الدولة التي أعطت لنفسها عنوان الدين، وواجهت المسلمين بعدوان سياسي وعسكري

فضل الله: التيارات الإقصائية والإلغائية تستهدف المسلمين والمسيحيين معاًبدعوةٍ من ملتقى الأديان والثقافات للتنمية والحوار، أقيمت في قرية الساحة التراثية ـ طريق المطار، ندوة بعنوان "العلاقات المسيحية ـ الإسلامية والتحديات الراهنة"، حضرها عدد من الشخصيات الدينية والثقافية والاجتماعية والتربوية والدبلوماسية والإعلامية، تقدمهم الأمين العام للجنة الحوار الإسلامي المسيحي، حارث شهاب، رئيس الرابطة السريانية، حبيب أفرام، ممثل الأقباط والناطق الإعلامي في اتحاد الرابطات المسيحية اللبنانية، إدمون بطرس، السفيران السابقان عبدالله بوحبيب، وجودت فخر الدين، قنصل السودان الدكتور التيجاني إبراهيم.

أدار الندوة عمر المصري، فقدَّم في البداية الشيخ بلال الملا، الذي ألقى كلمة جاء فيها: "ما يجمعنا مع المسيحيين في هذا الشرق، هو هذا الشرق نفسه، في نشأته، وفي أرضه، وفي سمائه، وفي لغته، وفي العرق والدم، وفي سحره الأخاذ، وقبل كل ذلك، تجمعنا مع المسيحيين الإنسانية التي كرمنا الله بها جميعاً".

وأضاف: "إنَّ ارتباط المسيحيين بالواقع العربي في هذه الأرض، لهو ارتباط وثيق، وما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرقنا، وأنا كشخص، لا أرى ما نختلف فيه إلا تنوّعاً وتعدداً وغنًى وتميزاً.. وهو،إن صحَّت التسمية، اختلاف وليس خلاف.. نعم، اختلاف في إطار الوحدة، مسلمين ومسيحيين.. وإننا كمسلمين، لا نرتضي أن يتم التعاطي مع المسيحيين ولا مع غيرهم كأقليات، ولا ينبغي لهم أن يقبلوا بذلك، فنحن جميعاً عرب.. وجميعاً أهل هذه المنطقة سواء بسواء، والمسيحيون العرب قبل الإسلام.. ولذلك، آن لنا أن نخرج من ضيق طوائفنا ومذاهبنا، إلى فضاء إنسانيتنا وإيماننا الواسع والعبادة الواسعة، فالدين هو الإيمان، والإيمان هو العبادة المحصورة بين العبد والخالق من جهة، والعبادة الواسعة بين العبد والخلق من جهة ثانية، وإذا ضبطنا هذه العلاقة بهذا الناظم الرباني، عندها، تنعدم الفوارق الطائفية والمذهبية التي نفذ منها أعداء الإيمان وأعداء السلام".

مظلوم

وكانت كلمة النائب البطريركي العام، المطران سمير مظلوم، جاء فيها: "يفرحني ويشرفني أن أشارككم هذا اللقاء الفكري والثقافي والوطني، وأشكر القيّمين على ملتقى الأديان والثقافات، الذين وجهوا إليّ الدعوة إلى هذه الندوة، وقد لبيتها بطيبخاطر، كي ألتقي هذه الوجوه الكريمة، وفي طليعتها، فضيلة العلامة السيد علي فضل الله، الذي يسير على خطى العلامة الكبير المرحوم السيد محمد حسين فضل الله؛ رجل الحوار والفكر الخلاق، والذي نلتقي في رحاب إحدى مؤسساته السياحية والثقافية المعروفة. وإني باسم صاحب الغبطة والنيافة، الكردينال مار بشارة بطرس الراعي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، أحييكم جميعاً، وأنقل إليكم تمنياته ومحبته وبركاته الأبوية".

وتابع: "إن التحدي الأكبر الذي يواجه المسيحيين اليوم، في علاقتهم مع إخوتهم المسلمين في عالم يشكلون فيه معاً أكثر من نصف سكانه، هو في الحفاظ على هذا العيش المشترك، ولا سيما في منطقتنا العربية، حيث نلاحظ أن الوجود المسيحي هو في تراجع مستمر، في منطقة شكل المسيحيون عنصراً رئيسياً  في تاريخها، وهم يصرون على البقاء فيها، والمشاركة في صنع حاضرها ومستقبلها. تعبيراً عن هذه الحالة، قامت لجان حوار كثيرة تنكبّ على هذا الموضوع، حتى في دول ليس فيها وجود للمسلمين، لكن نتائج هذا الحوار ظلَّت متواضعة، حتى لا نقول إنها شهدت مسيرة تراجعية في أكثر من مكان، ما أصاب القائمين بها بالقنوط والإحباط، ولكن هذا لم يحل دون تصاعد وتيرة المؤتمرات الحوارية، فالحوار هو عملية مستدامة لا بديل عنها".

وقال: "ومن العناصر المؤثرة في تفاقم التحديات، بروز الصراع السني ـ الشيعي بشكل حاد، وهو خلاف كنا في لبنان بعيدين عنه، بالرغم من أن جذوره ضاربة في التاريخ... إن عودة التوترات السنية الشيعية تعيق الانفتاح الإسلامي باتجاه المسيحيين، في وقت أصبح هذا الانفتاح حاجة ملحة، فلا انفتاح مع وجود اختلاف عميق بين المكونين الرئيسيين للإسلام. ولا بد هنا من تحذير المسيحيين من الانحياز باتجاه فريق أو آخر، لأنهم في النهاية سيدفعون ثمن هذا الانحياز، بينما رسالتهم تقضي بالعمل على بلورة رؤية مشتركة لمشروع يحظى بالقبول، ويفيد منه الجميع، سنة وشيعة ومسيحيين. إن غياب الرؤية المسيحية، والانقسامات الزبائنية الصغيرة التي يعانونها، تزيد في إضعافهم، ما يعطل دورهم في المعادلة الكيانية، وفي الحوار المسيحي الإسلامي".

وختم: "إن مستقبل المسيحيين في لبنان، وفي الشرق عموماً، كما مستقبل العيش الإسلامي المسيحي المشترك، ليسا قاتمين بالضرورة، ولكن لا بدَّ من الإقرار بأنهما واقفان على مفترق خطير، فإما أن نحمل معاً مشروعاً نهضوياً عربياً يشمل المنطقة بأسرها، ويكون لبنان في طليعتها، وإما أن يفقد لبنان رسالته، ويخسر الشرق هذه العلاقة المميزة، وهذه النكهة التي يخصه بها المسيحيون. ومثلما كانت هناك مسؤولية خاصة على المسيحيين العرب في الدفاع عن صورة الإسلام في العالم، وخصوصاً بعد أحداث 11 أيلول 2001، فإن مسؤولية المسلمين كبيرة اليوم في الدفاع عن الوجود العربي المسيحي وفعاليته، لأنهم بذلك يدافعون عن أنفسهم، وعن الصورة الحقيقية لإسلام الاعتدال.

فضل الله

واختتمت الندوة بكلمة رئيس ملتقى الأديان والثقافات، العلامة السيد علي فضل الله، جاء فيها: "لقد رسم الإسلام قاعدة العلاقة مع المسيحيين، استناداً إلى العناصر المشتركة التي تحكم علاقتهما ببعضهما البعض، والتي ينبغي أن تدفعهما إلى بناء مشروع عمل واحد، إن تحقَّق سيساهم في إذابة الجليد أو التوتر الذي ينتجه الخلاف في اللاهوت وغيره".
وأكد سماحته أن الإسلام لم يكره المسيحيين على التخلي عن خصوصياتهم العقدية والثقافية، بل دعا إلى تأسيس أفضل الروابط، على قاعدة البر والقسط، بصريح الآية القرآنية: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.

وأضاف: "وعلى ذلك كله، فإنَّ التفاعل الاجتماعي والحضاري بين المسلمين والمسيحيين، كان منذ فجر الإسلام ثمرة من ثمرات التوجيه القرآني، الذي خصَّص المسيحيين من أهل الكتاب بأفضل صور العلاقة، والتي ازدهرت وتنامت طوال العهد النبوي الشريف.

فضل الله: التيارات الإقصائية والإلغائية تستهدف المسلمين والمسيحيين معاًكان لا بدَّ من عرض هذه الرؤية التأسيسية لنظرة القرآن الكريم، والتي تجسدت غالباً في العلاقات المتينة والدائمة بين المسلمين والمسيحيين، تمهيداً لمقاربة أهم العوامل التاريخية والسياسية التي ضربت تلك العلاقات في صميمها، وصولاً إلى ما اعتراها في العصر الراهن من تحديات وأزمات عميقة، سوف نتناولها في ضوء الملاحظات التالية:

أولاً: يجب أن نضع فاصلاً موضوعياً بين المسيحية الدين والكنيسة، التي حرصت على أفضل العلاقات مع المسلمين، والمسيحية الدولة التي أعطت لنفسها عنوان الدين، وواجهت المسلمين بعدوان سياسي وعسكري في بعض المحطات، كانت حروب الفرنجة أبرزها.

ثانياً: لقد اضطربت العلاقات الإسلامية المسيحية بفعل الأحداث الخطيرة والفتن الكبرى التي أعقبت الخلافة الراشدة، وانتشار فوضى التأويل والتأويل المضاد، والتي أنجبت فرقاً إسلامية ذهبت بعيداً بلغة الإقصاء والعنف، كما أنتجت فقه الاستبداد والاضطهاد، ليس ضد المسيحيين فحسب، بل ضد كل من يخالفها في الرأي والاجتهاد أيضاً، وقد ساهمت بعض الفتوحات في الإساءة إلى هذه العلاقات، عندما خرجت عن التعاليم الإسلامية. 

ثالثاً: إن أحداث العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر في بلادنا، وما لابسها من تطورات، دفعت بالمسلمين والمسيحيين إلى أن يكابدوا معاً أخطر التحديات الراهنة.. حيث انتهى المشهد السياسي إلى سقوط منطقة المشرق العربي، ودخولها تحت مظلة الانتداب الفرنسي والبريطاني، ورسم خرائط طائفية ومذهبية تمزق الجامع العربي والإسلامي لبلادنا، وتأسيس كيان يهودي طائفي عنصري، وبعد ذلك، إنشاء أنظمة وحكومات على أسس طائفية، مروراً بإنعاش كل طموح يتستر بالمذهب أو العرق، لتعميق التناقضات والانقسامات، وتغذية كل حالات التشرذم".

وقال: "لقد شهدت بلادنا في ضوء هذه المعطيات، تيارات إلغائية إقصائية متطرفة، تنتمي إلى هذا الدين أو ذاك المذهب أو تلك الطائفة، لكنها لم تصل إلى المدى الذي وصلت إليه التيارات الراهنة، سواء في حجمها، أو في تجسيد رؤاها الإلغائية في استخدام العنف بهذه الضراوة، أو في تناميها وتوسعها في شكل غير مسبوق، بلغ ذروة الخطر بقتل المسيحيين والأيزيديين وغيرهم من الجماعات، وتهجيرهم من مدنهم وقراهم، وممارسة جميع ألوان الترهيب والضغوط والتهديدات والإكراه بحق أولئك الذين لم تسعفهم الظروف بالهروب.

إنَّ هذه التيارات لا تستهدف المسيحيين فحسب، بل استهدفت وتستهدف المسلمين على مختلف مذاهبهم، ممن لا يوافق هؤلاء على أفكارهم وسياساتهم، وهي تلحق أشد الأضرار بالإسلام كدين رحمة وتواصل وانفتاح... وهي إذ تقوي الصورة المعادية للإسلام في العالم، وتهدّد الكثير من الجاليات الإسلامية، في ظل ارتفاع موجة الإسلاموفوبيا (رهاب الإسلام)، فإنها تعزز من شرعية الدعوة إلى دولة يهودية عنصرية، وتبرر الكثير من المجازر الصهيونية بحق الفلسطينيين، ما يدعونا، كعرب ومسلمين ومسيحيين، إلى الوقوف في مواجهة هذه الظاهرة.

ويمكن في هذا الصدد اقتراح نقاط عدة:
أولاً: المواجهة المشتركة لمشاريع تقسيم الشرق الأوسط، وتمزيق شعوبه ونسيجه المجتمعي وهويته الحضارية. كذلك، مواجهة مشاريع الإرهاب التكفيري والتطرف الديني، الرامية إلى ضرب العلاقات الإسلامية ـ الإسلامية، وإكراه المسيحيين على تغيير دينهم، وتهجيرهم من ديارهم وأوطانهم.

ثانياً: مواجهة مشاريع الاحتلال والهيمنة الاستعمارية الجديدة وعدوانيتها السافرة لتغيير الواقع الديمغرافي، من دون أي تمييز بين مسلم ومسيحي.

ثالثاً: العمل معاً لكسر ظاهرة الصمت، واللامبالاة، والتجاهل، والجهالات، وحملات التشويه المستمرة لقيم الدينين الكريمين، والتأسيس لرؤية إيمانية وأخلاقية مشتركة، تخرج المسلمين والمسيحيين من رواسب الماضي، لنواجه معاً بالمسؤولية المشتركة والقيم المشتركة، أسئلة المستقبل وتحدياته القادمة، فلا يكفي أن نكون على أرض واحدة لتكون العلاقات المسيحية ـ الإسلامية سليمة".

وختم قائلاً: "إنَّ العالم من حولنا ينتظر من المسيحية والإسلام خطاباً إنسانياً عالمياً، يرد الاعتبار إلى فلسفة الخلاص بالإيمان، فلم نكن نحن المسيحيين والمسلمين، مشكلة للحضارة، بل كنا ضحايا الذين صنعوا لنا المشكلة، على حد تعبير المرجع السيد محمد حسين فضل الله، وعلى منهاجه رضوان الله عليه، نؤكد كلمته الشهيرة: "إننا نظلم الشرائع السماوية إذا قلنا إن بينها عداءً أو تناقضاً، فالبشر هم الذين أوجدوا هذا العداء وذاك التناقض".

إنَّ في المسيحية المبنية على تعاليم السيد المسيح(ع) من السماحة وحب السلام، ما يجعلها تلتقي دائماً مع الحقيقة الإسلامية الواعدة دائماً بإفشاء السلام ونشره. كذلك، فإن إعلان قداسة البابا فرنسيس أن المواجهة اليوم ليست بين المسلمين والمسيحيين، يؤكد وضوح الرؤية المشتركة في النظرة العميقة إلى التحديات الراهنة، وضرورة التبصر الحكيم في الوثيقة التي صدرت عن الفاتيكان منذ ستينات القرن الماضي، وسواها من الوثائق، التي فتحت أبواب المسيحية كلها في الغرب وفي الشرق، من أجل تحصين العلاقات المسيحية ـ الإسلامية بمبادئ القيم المشتركة والمصير المشترك".