انها ليست إذاً حركة عنصرية دينية، تضع في خانة الاعداء فقط، معتنقي الديانات الاخرى، انها حركة همجية تغطي همجيتها بدعاوى دينية مزورة ومفتعلة، لإجراء تطهير عرقي وحشي
قبل ظهور «القاعدة»، وتفرعاتها الكثيرة مثل «داعش» و«جبهة النصرة» وسواها، كانت حركة التاريخ في هذه المنطقة الحساسة من العالم، تبدو منذ انهيار الامبراطورية العثمانية كأنها تسير قدما، ولكن بخطوات شديدة البطء والكسل، الى درجة ان التاريخ كان يبدو في لحظات معينة، وكأنه متوقف عن السير.
لكن الانفجار الاخير لحركة «داعش»، في كل من سوريا والعراق، وصولا الى حدود لبنان الشرقية، بدا فجأة وكأن التاريخ أخذ يسير الى الوراء، وبسرعة شديدة في بعض اللحظات.
الذروة العالية في هذه الحركة الى الوراء، تجسدت في الموصل، ومحافظة نينوى العراقية، حيث أفلتت حركة «داعش» من عقالها، لإجراء عملية تطهير عرقي جماعي وشامل لكل الاقليات من سكان البلاد الاصليين، من مسيحيين وايزيديين. ثم استكملت «داعش» هذه الحركة السريعة بالتاريخ الى الوراء، في مجزرة في الاراضي السورية، راح ضحيتها مئات من أفراد عشيرة تعتنق الإسلام على المذهب السني.
انها ليست إذاً حركة عنصرية دينية، تضع في خانة الاعداء فقط، معتنقي الديانات الاخرى، انها حركة همجية تغطي همجيتها بدعاوى دينية مزورة ومفتعلة، لإجراء تطهير عرقي وحشي، لكل المكونات في الفسيفساء الاجتماعية في هذه المنطقة الاغنى حضاريا في العالم، بغض النظر عن الدين، وبغض النظر حتى عن المذهب من الدين نفسه.
ان فهم هذه الظاهرة السرطانية التي انطلقت في نهش جسد التركيبة الاجتماعية الغنية للمشرق العربي، لا يجوز ان ينحصر في زاوية الادعاءات الدينية المزيفة لهذه الحركة، انها ليست حالة دينية، لا قديمة ولا جديدة، انها حركة اجتماعية سياسية متخلفة قرونا عديدة الى الوراء، تريد الارتداد بهذه المنطقة من العالم الى عصور، ما قبل ظهور الديانات السماوية الثلاث.
ولا يجوز ان يغيب عن أذهاننا عند التأمل العميق في هذه الظاهرة الوحشية الهمجية، ذلك التزامن والتوافق الزمني في ظهور بداياتها الاولى في أفغانستان، عندما اندفعت المخابرات المركزية الاميركية بعبث تاريخي وأخلاقي لا مثيل له، الى نبش أعمق ما في جذور التاريخ من حالات التعصب الديني، لتوظفيه في محاربة النفوذ السياسي للاتحاد السوفياتي، في افغانستان.
واذا كان الهدف الاستراتيجي للحركة الصهيونية هو دعم اسرائيل حتى تتحول الى الدولة الوحيدة المتماسكة في المنطقة، التي تتحكم بمصير مجموعة من الكيانات المفككة حولها، فليس أسرع من تحرك «داعش» في سوريا والعراق، للوصول بالاوضاع من حول الكيان الصهيوني، الى ذروة التفكك والتخلف والانحدار قرونا كاملة الى الوراء.
لقد كشف الاندفاع الهمجي لـ«داعش» في الموصل وفي سوريا أمام عيوننا، كما لم ينكشف في أي يوم سابق، ذلك الغنى اللامتناهي لفسيفساء التنوع في التركيبة الاجتماعية والعرقية والدينية لبلدان المشرق العربي، فإذا أضفنا الى ذلك مصر وتركيبتها الاجتماعية الغنية من عنصري الأقباط والمسلمين، ثم بلدان المغرب العربي المكونة من مزيج حضاري نادر من العرب والامازيغ، فإننا عندئذ سنكتشف هول الاندفاع الهمجي الذي انطلقت به «داعش»، فيما لو استمر في اندفاعه، بلا قوة تقف في وجهه.
انها أشبه بصدمة تاريخية تريد، لو نجحت، ليس فقط ان توقف تقدم التاريخ البطيء في هذه المنطقة من العالم، بل تحويل حركة التاريخ هنا الى حركة ارتدادية، تعود بالمجتمعات القهقرى الى الخلف كلما مر الزمن.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه