كشف مدعي عام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان دانيال بلمار عن مضمون قراره الاتهامي لينكشف بذلك السرور والفرح على وجوه المتهمين لأن قرار اتهامهم يحمل في صفحاته دليل براءتهم!
أخيراً، وبعد طول انتظار، كشف مدعي عام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان دانيال بلمار عن عجيبته التي تدعى القرار الإتهامي في قضية اغتيال رئيس مجلس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، مع الإبقاء على سرّية بعض التفاصيل الواردة في نص القرار. وفي سابقة فريدة من نوعها تنفس المتهمون الصعداء عند قراءتهم للتقرير، لا بل ارتسمت علامات الفرح والسرور على وجوههم، فصحيح أنهم واثقون من مظلوميتهم، إلا أنهم تمنوا ليل نهار بأن يقرأ جميع المواطنين القرار الذي دفع لبنان ثمنه دماً ومالاً وتدميراً وعداوات.
نعم أرادت المقاومة أن يمعن طلاب الحقيقة النظر في 45 صفحة علّهم يدرون ماذا يفعلون! ومن يؤيدون وكيف يتهم أبرياء بالقتل. وعلى الجهة المتَهمة أن تشكر بلمار، فلو تصفحنا كتب التاريخ لن نجد أبداً قراراً اتهامياً يبرئ متهمين! ولن نجد فيها أن قرار التصديق على القرار الاتهامي يتضمن تشكيكاً في صحة ما ورد فيه!
أي عجيبة هذه جعلت قاضي الإجراءات التمهيدية في المحكمة الخاصة بلبنان القاضي دانيال فرانسين يشكك في قرار بلمار ويوافق عليه في نفس الوقت؟
سؤال لم يخطر ببال أحد، أو لم يلتفت له أحد، لأن الأنظار في الأساس توجهت إلى قرار بلمار ولم يكلّف أحد نفسه عناء قراءة ما هو أهم من القرار الإتهامي، إنه قرار التصديق الذي أصدره دانيال فرانسين!
فبعد الإطلاع على قرار بلمار الإتهامي وعلى قرار فرانسين الذي صدّق فيه على القرار الأول نتفاجأ بداية أن قرار التصديق بالإضافة إلى توجيه التهم يتكوّن من 59 صفحة! في حين أن القرار الإتهامي نفسه 45 صفحة! وإن حذفنا الصفحات القانونية والإجرائية لا يتبقى سوى 8 صفحات تحتوي على مضمون يذكر. إذاً قرار فرانسين الذي صدق فيه على قرار بلمار يجب في هذه الحالة أن يكون من 4 صفحات لا أكثر! إلا أن السبب الرئيسي في استطراد فرانسين في الشرح والتفسير والتبرير في قرار المصادقة يعود إلى تضمنه إشارات ومعلومات واستناجات وآراء ترسم صورة عن مجريات الأحداث بين فرانسين وبلمار أثناء مرحلة التصديق التي استمرت حوالي 7 أشهر، وهذه المعلومات مهمة جداً بالنسبة للمفهوم والرؤية التي نستنتجها من التقريرين.
تقرير بلمار كتب لاتهام آخرين مستقبلاً
وبما أن القرار التهامي يرتكز من ألفه إلى يائه لملف الاتصالات، كان لا بد من التوجه لخبير الاتصالات الدولي رياض بحسون الذي رافق نشأة قطاع الاتصالات الخلوية في لبنان منذ العام 1994 وحتى يومنا هذا، بالإضافة إلى كونه نائب رئيس الإتحاد الدولي للاتصالات ، وفي مستهل حديثه لموقع قناة المنار يقول بحسون: "بداية يوجّه قرار بلمار اتهاماً واسع النطاق بشكل كبير وفي نفس الوقت متشدد، وهو عبارة عن قناعة مطلقة بأن المتهمين الأربعة هم فعلاً من ارتكب الجرائم التي يتهمهم بها، بل يضيف بلمار أنّهم ارتكبوها لاستطاعتهم ذلك وهم مدربون لتنفيذ هكذا عمل! وهناك نيّة لديهم للقيام به ويريدون ذلك. وفي تفسيره عن سبب امتلاكهم لهذه القدرة قال لأنهم ينتمون للجناح العسكري لحزب الله الذي بدوره ارتكب جرائم إرهابية معروفة! ولو اعتمدنا المبدأ القانوني الذي يقول بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، فإن براءة هؤلاء أصبحت صعبة معنوياً بعد قراءة تقرير بلمار، حيث أن التقرير مكتوب ليمنع أي أحد من أن يفكّر حتى بأن يكون المتهمون أبرياء. هذا ما يؤكده الفرق الحاد ما بين نص الاتهام وتأكيد أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله على أن المتهمين أبطال ومظلومون، هذا الفارق الجذري كان هدفاً أساسياً لدى بلمار، أما الهدف الآخر من ربط المتهمين بحزب الله والشهيد عماد مغنية هو رغبته بتقديم قرارات إتهامية إضافية لاحقاً، بغض النظر إن كان فرانسين سيصدّق عليها أم لا، إنما ستقدّم، فلو لم يكن يريد توسعة دائر الإتهام إلى ما بعد المتهمين الأربعة لم يكن ليضمّن القرار هذه الفقرات أو يذكر مغنية أو حزب الله، والمثير للإستغراب عدم اعتراض فرانسين الإبقاء على هذه الفقرات في النص".
هذا عدا عن الخطأ المقصود الذي ورد في النص إذ إن بلمار يتهم في الفقرة 59 من القرار حزب اللـه بارتكاب "عمليات إرهابية"، ولا يذكر المصدر الذي استند إليه للحسم بتورط حزب اللـه في الإرهاب. مع العلم أنه ليس هناك توافق دولي أو إقرار أممي جامع بتصنيف الحزب إرهابياً. ولم يصدر أي قرار عن محكمة أو هيئة قضائية دولية أو عن الجمعية العمومية في الأمم المتحدة أو عن مجلس الأمن الدولي (الذي أنشأ المحكمة الدولية بموجب القرار 1757/2007) يصنّف الحزب أو يشير إلى تورطه في الإرهاب.
لا يستطيع بلمار أن يربط المتهمين بحزب الله
وإذا أردنا أن نتكلّم بشكل علمي بحت بعيداً عن أي توجه سياسي، نستطيع التأكيد على أنّ عضوية حزب الله سرّية، حيث أنه لا وجود للوائح على الإنترنت أو لدى القضاء اللبناني أو وزارة الداخلية لشخص منتمي إلى حزب الله، فيسجل نفسه ويستلم بطاقة انتساب كما في باقي الأحزاب، أما الإنتماء إلى الجناح العسكري لحزب الله فهو سري تماماً، وبناءاً على ذلك لا يستطيع بلمار في أي قرار إتهامي أن يؤكد بأن هؤلاء منتمين للجناح العسكري لحزب الله! فهو لا يملك دليلاً ومن المستحيل معرفة هذا الشيء. أما السيد حسن نصرالله يستطيع أن يصفهم بالمقاومين الأبطال، ويمكنهم أن يكونوا كذلك دون أن يكونوا قادة في الحزب أو حتى أعضاء فيه أو في جناحه العسكري، وعلى الرغم من عدم نفي حزب الله لهذه المعلومة فإن ورودها في قرار إتهامي صادر عن قاض فهو أمر مستغرب وغير قانوني.
ثم إن الإزدواجية التي وقع بها المدعي العام هي وصفه المتهمين بأنهم "مناصرون لحزب اللـه"، وفي الفقرة نفسها ما يناقض ذلك بوضوح: إذ يرد الآتي: "استناداً إلى خبرتهما وتدريبهما وانتسابهما إلى حزب اللـه" فكيف يكون المتهمون مجرّد مناصرين لحزب اللـه كما يرد في مطلع الفقرة ومن ثمّ يتحوّل اثنان منهما إلى منتسبين إليه؟
جدال بين فرانسين وبلمار.. تشكيك بصحة ملف الإتصالات
بعد الكشف عن الفخ الواضح في القرار الإتهامي وبعض المغالطات الواردة فيه، لا بد من الغوص في بعض التفاصيل الضرورية في قرار التصديق الذي أصدره فرانسين، وحول هذه النقطة يقول بحسون: "يكشف قاضي الإجراءات التمهيدية أنه اجتمع مرتين مع فريق بلمار لمناقشة ملف الإتصالات ويحدد التواريخ (7 آذار/مارس و7 نيسان/أبريل 2011) في حين أن بلمار لم يذكر هذه النقطة، وبين التاريخين هناك 60 يوماً كان يمكن للمدعي العام أن يعدّل أثناءها على الملف أو أن يدعّم حجّته، خاصة بعد أن أبلغه فرانسين عدم اقتناعه بما قدمه، فمن كلام فرانسين نفهم أنه حصل جدال حين سأل بلمار عن الشخص الذي صاغ الملف، فكانت الإجابة أنه موظف في مكتب المدعي العام! وكلمة موظف هي معنوياً أخف بكثير من كلمة عضو مكتب التحقيق الدولي".
وهنا نورد تصوّراً توضيحياً للحديث الذي جرى بين الرجلين، بناءاً على ما أورده فرانسين في الصفحتين 15 و16 من تقريره:
فرانسين: |
من هو الشخص الذي صاغ ملف الإتصالات؟ |
بلمار: |
إنه موظف في مكتبي (مكتب المدعي العام) |
فرانسين: |
موظّف؟! ولكن ما مدى كفاءته وخبرته ليصيغ الملف وما هي صفته؟ |
بلمار: | إنه خبير بتحليل داتا الإتصالات |
فرانسين: |
لكن كيف صيغ الملف؟ وكيف يمكن أن نعرف أن ما ورد مطابق للمعايير الدولية المتعلقة في هذا المجال؟ لأنني لا أمتلك هذه الخبرة وليس لدي الإمكانيات والصلاحيات للتدقيق ما إذا كان هذا الملف الفني صح أم خطأ ولا استطيع أن أقرر إذا ما كان مطابقا للمعايير الدولية في معاهد الإتصالات العالمية. |
بلمار: |
لا تقلق، هو خبير في هذه الأمور |
فرانسين: | هو خبير في تحليل داتا الإتصالات لكن هذا التقرير يتضمن معلومات بعيدة جداً عن التحليل! |
"هنا يُدخل فرانسين عنصر الشك في مصداقية ما قاله بلمار عن مسؤولية هذا الموظّف عن كتابة التقرير نظراً لوجود أجزاء في الملف لا يمتلك هذا الشخص الكفاءة لكتابتها. يقول فرانسين في تقريره إنه بناءً على ما قدّم له من معطيات وتفاصيل تتعلق باستخدام الإتصالات و"في ضوء القرائن" و"بصورة أوّلية" يجد أن اتهام هؤلاء ممكن،وتكمن الأهمية هنا في استخدام هذه العبارات، ولتأكيد رؤيته استخدم عبارة ثالثة باللاتينية وهي prima facie، وكل هذه الكلمات معناها واحد وهو "كما يبدو لأوّل نظرة"، وهذا ما يظهر جلياً مدى تشكيكه بما قدمه بلمار" (ص 9، فقرة 22)"، يوضح بحسون.
ويضيف ما قصده فرانسين "أي أنه يتبين مما تقدم والمعلومات التي أعطيت لي وجوب ملاحقة المتهمين، ولكن ما قبل الوصول إلى الإدانة يجب أن تتأكد المحكمة أن هذا التقرير عُمل عليه وعلى صياغته بناءاً على القوانين الدولية وهذا ما لا استطيع تأكيده"، أي أنّ الأمر وصل بفرانسين إلى درجة القول إنه لا يستطيع رفض القرار الإتهامي لأنه لا يملك الخبرة إن كان قانونياً أم لا، إلا أنه لديه شكوك حول الملف الذي ارتكز عليه القرار! ولكن إن لم يكن موظف بلمار هو من صاغ تقرير الإتصالات، فمن قام بذلك إذن؟
في الجزء الثاني من التقرير:
من قام بصياغة ملف الإتصالات؟ هل لـ"الإقتران المكاني" الذي اعتمده بلمار لتوجيه الإتهام وجود في عالم الإتصالات؟ ما هي الهفوات التي وقع بها بلمار عندما قسّم الشبكات إلى ألوان؟ من هو مجهول الهوية الذي نسّق ما بين عياش من جهة وصبرا وعنيسي من جهة أخرى بحسب القرارا الاتهامي؟