قبل ان تضع الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة أوزارها رسمياً بثلاثة أيام، كانت طائرة استطلاع اسرائيلية متطورة من طراز "هيرمس"
علي عبادي
قبل ان تضع الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة أوزارها رسمياً بثلاثة أيام، كانت طائرة استطلاع اسرائيلية متطورة من طراز "هيرمس" لا يرصدها الرادار تقوم بطلعة تجسسية فوق ايران وتقترب من منشأة نطنز لتخصيب اليورانيوم وسط البلاد. الطائرة اكتُشفت وتم اسقاطها من قبل الدفاعات الجوية الايرانية، ولولا ذلك لم تكن لتكون خبراً، ذلك ان اسرائيل بدأت سراً العمل بحافزية أكبر من قبل للبحث عن انجاز يعوض عن هوانها وقلة حيلتها أمام قطاع غزة المحاصر.
الحفاظ على قوة الردع، وتعني اسرائيلياً دفع العرب للتفكير مئة مرة قبل التجرؤ على تحدي "اسرائيل" او تهديدها، هاجس يؤرق قادة الاحتلال باستمرار، وبالأخص بعد الخروج من تجارب مريرة بدون انتصار واضح. الآن أعيت غزة كيان الاحتلال عن تحقيق انتصار يعتدّ به ويحفظ ماء وجهه، فذهب الى تهدئة مفتوحة زمنياً ومن دون شروط! لكن ذلك لا يعني بأي حال ان الهدوء قادم الى المنطقة، فالقادة الاسرائيليون لن يناموا على "الضيم" وهم يبحثون عن فريسة يسهل أكلها وتُظهر ان لإسرائيل قوة ضاربة مرهوبة الجانب.
تجربة ما بعد حرب لبنان
لكي نفهم السلوك الاسرائيلي الحاليّ والمستقبليّ، لا بأس باستذكار ما حصل بعد "حرب لبنان الثانية" عام 2006.
بعد ان خرجت "اسرائيل" بانكسار مدوّ أمام صمود المقاومة في لبنان لما يزيد على شهر (خسرت المئات من جنودها وضُربت العشرات من دباباتها وخسرت بعض القطع البحرية ولم يستطع سلاحها الجوي بدايةً ولا التقدم البري لاحقاً أن يعيد الجنديين الأسيرين او يوقف اطلاق الصواريخ على العمق الاسرائيلي)، بدأت حكومة الاحتلال تسعى لتقديم إنجاز تفخر به فلم تر غير القول إنها دفعت الأمين العام لحزب الله للإختفاء عن الأنظار او دفعت أعلام حزب الله بعيداً عن الحدود، غير ان تلك "المفاخر" لم تكن لتقنع أياً من الاسرائيليين، فانطلقت أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية بحثاً عن أهداف تعيد الاعتبار لقوة "اسرائيل" المهدورة، وكان من جملة الأهداف التي وقع الاختيار عليها وجرى ضربها منشأة "الكبر" في دير الزور شرقي سوريا التي روّج الاسرائيلي انها كانت مصمَّمة لتكون مفاعلاً نووياً سورياً. (لندرك الرابط بين نتائج "حرب لبنان الثانية" وغارة دير الزور في ايلول/سبتمبر عام 2007، تكفي الاشارة الى ما ذكره النائب السابق لمستشار الأمن القومي الأميركي، إليوت إبرامز، في كتابه "اختبار صهيون: إدارة بوش والصراع الإسرائيلي – الفلسطيني"، حيث روى خلفيات القيام بالغارة من المنطلق الآتي: رأيتُ أن على الإسرائيليين أن يقصفوا المفاعل ليستعيدوا صدقيتهم بعد السنتين السيئتين اللتين عانوا منهما، إثر الحرب الثانية على لبنان عام 2006 ثمّ سيطرة حماس على قطاع غزة عام 2007).
تمثلُ استعادة قوة الردع قلب الاستراتيجية العسكرية الاسرائيلية، وكلما مرت "اسرائيل" بتجربة مريرة على الصعيد العسكري يصبح "التعويض" أمراً لا مفر منه في نظر كبار الساسة والمخططين العسكريين لديها. لهذا ركز الإسرائيليون بعد حرب لبنان 2006 وبعد حربهم على غزة 2008 على سياسة الذراع الطويلة، وقامت طائراتهم بغارات متكررة على السودان بدءاً من كانون الثاني/يناير 2009، مستهدفة ما يزعمون أنها قوافل أسلحة مرسلة الى غزة، كما قبضوا على شحنات أسلحة بحرية "مرسلة الى غزة" أيضاً، وضربوا مواقع أسلحة دفاعية استراتيجية في سوريا غير مرة، واتخذوا من التلويح بضرب منشآت ايران النووية مساراً قائماً بذاته لترميم قوة الردع وبناء الثقة بالنفس. كل هذه الجهود تبددت الآن مجدداً مع فشل الحرب على غزة التي بدأت في 7 تموز/ يوليو 2014، ويعود ضرورياً من وجهة نظر الاسرائيليين البحث عن كيفية ترميم صورة جيشهم الذي بدا كهيكل حديدي ضخم عاجز عن إخضاع قطاع ٍمحاصر منذ سنوات عدة.
مدلول الانتصار في غزة
صحيح ان وقف اطلاق النار لم يضع حداً واضحاً نهائياً للعمليات الحربية ولم يقدم للفلسطينيين كل المطالب التي كانوا يطمحون اليها ومنها على سبيل المثال فتح ميناء في غزة، اضافة الى المطار. لكن الفلسطينيين حصلوا على مكاسب تكتيكية لا سيما لجهة فتح معابر غزة على الفور وتوسيع المنطقة المخصصة للصيد في مياه البحر المتوسط قبالة القطاع، وهم يأملون ان يحققوا المزيد خلال المرحلة الثانية من المفاوضات غير المباشرة التي ستبدأ بعد شهر، بعدما تم ترحيل القضايا الخلافية الى ذلك الحين. لكن علام حصل الاسرائيليون حتى الآن؟ ببساطة: لا شيء سوى وقف اطلاق النار. لقد خرج سكان مستوطنات "غلاف غزة" من ملاجئهم ليعربوا عن رغبتهم بترك هذه المناطق نهائياً والانتقال الى عمق أكثر أمناً، بينما يحاول الاقتصاد الاسرائيلي الانتعاش مجددا وسط توقعات رسمية بتراجع معدل النمو العام نصف نقطة مئوية على الأقل، وقـُدرت تكاليف الحرب بما بين ثلاثة واربعة مليارات دولار. لكن مطلب نزع الصواريخ من يد المقاومة لم يعد مطروحاً بجدية على جدول الأعمال بسبب كونه غير قابل للتنفيذ.
كما ان الأنفاق التي اجترحتها المقاومة الفلسطينية لمجابهة الآلة الاسرائيلية العاتية لا تزال قائمة وتعمل حتى لو تم تدمير قسم منها. ولم تستطع اسرائيل تحقيق "مُنية عزيزة" لديها بقتل قياديين فلسطينيين عسكريين او سياسيين من الصف الأول خلال هذه الحرب، وإن استشهد بعض القادة الميدانيين.
لكن "إسرائيل" لن تنسى او تـُنسي العالم ان جيشها المعتدّ بقوته والمجهز بأحدث التكنولوجيا لم يستطع ان يضع حداً لنيران الصواريخ الفلسطينية على مدى أكثر من خمسين يوماً، وقد تهددَ عمقها الحيوي وصولا الى تل ابيب والقدس ولِما أبعد. وهي تشعر بحساسية كبيرة ازاء احتفالات الفلسطينيين بالانتصار، بل تذهب الى التفكير في ما يقال في بيروت (من قبل حزب الله) وفي ايران عن هشاشة قدرات "اسرائيل" وضعفها عن تحمل الصواريخ الفلسطينية المحدودة العدد والمدى والقدرة التدميرية، فكيف لها ان تهدد سواها وان تتحمل ما هو أكبر؟
صورة اسرائيلية "قاتمة"
ويشعر الكثير من الاسرائيليين بالأسى للنهاية التي وصلت اليها الحرب على قطاع غزة. ولكي ندرك أهمية الانتصار الذي حققته المقاومة الفلسطينية برغم التدمير الاسرائيلي الواسع، نتوقف عند بعض ما يقوله الاسرائيليون أنفسهم عن حصيلة ما جرى. اذ يرى وزير السياحة عوزي لانداو في حديث للاذاعة الاسرائيلية ان نتائج الحرب بالنسبة لاسرائيل "قاتمة للغاية" لانها لم تحقق الردع الكافي الذي يمنع الفلسطينيين من مهاجمة اسرائيل مجددا. وسياسة الردع تقوم بالدرجة الاولى على التدمير، ولانداو هذا كان اول من اطلق نظرية ضرب البنى التحتية المدنية في لبنان مقابل كل جندي اسرائيلي يُقتل على الاراضي اللبنانية في العام 1998، ويبدو انه نسي ان تلك الضربات آنذاك لم تحقق الهدف المرجو منها. وماذا في وسع حكومة نتنياهو وجيشها ان يفعلا بعد تدمير آلاف المنازل في قطاع غزة وتشريد ما يزيد على نصف مليون انسان وقتل 2139 شخصا معظمهم مدنيون وبينهم أكثر من 490 طفلا؟
ليس ثمة حديث في الكيان الصهيوني عن الثمن الانساني الباهظ الناجم عن "سياسة الردع"، ما يهم هو تحقيق النصر: يعترف المعلق "بن كاسبيت" في صحيفة معاريف اليومية بأن إسرائيل لم يتحقق لها النصر في صراع أسفر عن "انهيار صناعة السياحة واقتراب الاقتصاد من الركود." ويعبّر الكاتب المخضرم شيمون شيفر عن مشاعر الإحباط بالقول في صحيفة يديعوت أحرونوت: "بعد 50 يوما من الحرب التي قَتَل فيها تنظيم إرهابي (كذا) عشرات الجنود والمدنيين وقضى على الروتين اليومي ووضع البلاد في محنة اقتصادية... كنا نتوقع أكثر من اعلان وقف اطلاق النار"، مضيفا: "كنا نتوقع أن يذهب رئيس الوزراء إلى مقر الرئيس ويبلغه بقرار الاستقالة من منصبه."
وأبدى الكاتب الصحافي البارز ناحوم بارنيا اعتقاده بأن نتنياهو ليس أكثر من متحدث متمرس، وهذه إشارة الى ان "اسرائيل" تحتاج زعيماً "قوياً" في هذه المرحلة العصيبة، ويذهب بارنيا الى رؤية أوسع للمشهد الحالي، بقوله: "بدلاً من تمهيد الطريق للقضاء على التهديد من غزة، فنحن نمهد الطريق للجولة المقبلة في لبنان أو غزة." ويبدو اننا هنا أمام صلب الموضوع، إذ ستتوقف طبيعة الأحداث المستقبلية الى حد ما على الطريقة التي يتم بها إنهاء الحرب على غزة.
حسابات واحتمالات
لن تمر نتائج حرب غزة مرور الكرام على الداخل الصهيوني؛ الحسابات السياسية والعسكرية ضاغطة جداً، وسيكون على الطبقة السياسية والعسكرية مواجهتُها بخطوات لرد الاعتبار. وبعد إدراك ان الكيان الصهيوني واقع في أزمة الإحساس بفقدان الردع، ثمة فرضيات للسلوك الاسرائيلي مستقبلاً:
- تنفيذ عمليات اغتيال بحق قيادات في المقاومة لاستعادة الشعور بالإنجاز المفقود.
-القيام بغارات في بعض دول الاقليم بهدف استعادة قوة الردع، مع مراعاة اختيار نقاط ضعف لا تجرّ الى مواجهة مكلفة.
-القيام بعمليات استخبارية معقدة مثل "اكتشاف" خلايا ومخابئ اسلحة او اختطاف شخصيات ذات قيمة ميدانية.
ويبقى احتمال وقوع حرب كبيرة أخرى في غزة او غيرها أمراً محتملاً وإنْ ضعيفاً، والإسرائيلي اعتاد على القيام بمفاجآت عسكرية وأمنية، ولهذا لا ينبغي - على ضوء اتضاح مبلغ ضعفه والنهاية غير المريحة للحرب على غزة- أن يفاجئنا قيامُه بـ"عمليات تعويض" من أي نوع.