إن الثورةَ الثانيةَ التي تشهدُها الـيَـمَـنُ، تأتي بهدف معالجة الاختلالات التي تعرضت لها العمليةُ السياسية،
عبدالله علي صبري- اليمن
رَدّاً على التصعيدِ الثوري الذي تشهَـدُه الـيَـمَـنُ في عديدٍ من المحافظات، اتجه الرئيسُ عبد ربه منصور هادي إلى بلورة "اصطفاف وطني" يضُمُّ القوى السياسيةَ المشارِكةَ في الحكومة التي توافقت على إقرارِ الجُـرْعَـةِ السعرية الأخيرة التي أشعلت الانتفاضةَ الشعبيةَ ضد الحكومة وقراراتها، فخرجت الجُموعُ تهتفُ لإسقاط الجُـرْعَـة والحكومة كمتلازمتَين يقولُ الثوارُ في الساحات بأنهم لن يتراجعوا عنها، وأنهم لن يرفعوا اعتصاماتِهم حتى تستجيبَ الحُكُومةُ لكافة مطالبهم.
من جهتها أعلنت أربعةٌ من الأحزاب السياسية المشارِكةِ في الحكومة عن مبادَرات لمعالجة الأزمة الراهنة، تتضمَّــنُ مقترحاتٍ بإعادة النظر في أسعار المشتقات النفطية، والقبولِ بحكومة كفاءات وطنية، بالإضافةِ إلى ترتيباتٍ عمليةٍ في إطار تنفيذ مخرجات مؤتمر الحوار الوطني، ما يعني عملياً تقلُّصَ الاصطفاف الوطني من حول الرئيس والحكومة.
وإذ رَحَّبَ أَنْـصَـارُ الله بمواقفِ هذه الأحزاب، فقد ظل موقفُ الرئيس هادي متشدداً حتى الآن، ولا يشارِكُهُ في هذا التشدد سوى حزب الإصلاح (الإخوان المسلمين)، الذي بات يدافِعُ عن الجُـرْعَـة السعرية وكأنها من المكتسبات والثوابت الوطنية.
فشلٌ سياسي
منَحَ الإصلاحُ ثورةَ فبراير 2011 زَخَماً كبيراً بانضمامِه إلى ساحاتِها ومسيراتها؛ نظراً لجماهيريته الممتدة على طول البلاد، ومقدرته التنظيمية على الحشدِ وإدارة التظاهرات ومخيمات الاعتصام، وهي الميزةُ التي مكَّنته من التأثيرِ المباشرِ على قرارات اللجنة التنظيمية للثورة، وضبط إيقاعات التصعيد الثوري، وُصُولاً إلى فرض التسوية السياسية وفقاً للمبادَرة الخليجية التي تنازَلَ الرئيسُ السابقُ بموجبها عن السلطة، وحصَلَ في المقابل على حَصانة قانونية، استفاد منها في البقاء على رأس حزب المؤتمر الشعبي العام، الذي غدا شريكاً في حكومة الوفاق بالمناصَفَة مع الإصلاح وشركائه.
بدا الوضعُ مختلاً لجهة أَن الثورة الشبابية كان عليها أَن تغيِّرَ النظامَ الحاكمَ كليةً، وإذ رفضت قوىً ومكوناتٌ ثوريةٌ هذه التسوية الظالمة، فقد كان الإصلاحُ بقياداته وقواعده في مقدمة المتحمِّسين للحل الخليجي؛ كونه المنطلقَ لتحقيق أهداف الثورة، وتمكينهم من السلطة، كما حدَثَ مع تنظيمات الإخوان المسلمين في مصر وتونس والمغرب التي استفادت من رياحِ الربيع العربي واستغلته لتحقيقِ هذا الهدف.
راهَنَ حزبُ الإصلاح على المناخ الإقليمي والدولي الذي كان مسانِداً للإخوان المسلمين خلال الموجَةِ الأولى للربيع العربي، وبفضل هذا المناخ انخرَطَ الإصلاحُ في التسوية السياسية وفي حكومة الوفاق الوطني، وعمل لاحقاً على رفع مخيَّمات الاعتصام من الساحات الثورية.. وترافق مع هذه الخطوات صدورُ قرارات جمهورية في إطار الوظيفة العامة مكَّنت الإصلاح من التحكم في عددٍ من مفاصل وأجهزة الدولة، وإقصاء بقية القوى، بما فيها شُركاء الإصلاح في اللقاء المشترك.
بالإضافة، فقد انشغل وزراءُ حكومة الوفاق بمختلف انتماءاتهم بالمحاصَصة الوظيفية، وتسابقوا عليها بما يخدُمُ مصالحَهم ومصالحَ أحزابهم أو الشخصيات المتنفذة التي أوصلتهم إلى مواقعِ القرار، كما لم يتورَّعْ غالبية الوزراء عن الانخراط في الفساد المالي والإداري، الذي كشفت جانباً منه تحقيقاتِ الصحافة الأهلية، وأخرى وردت في تقارير برلمانية، وبعضها جرى تداولها على صفحات التواصل الاجتماعي.
وكان لوزراء "الإصلاح وشركائه" نصيبٌ كبيرٌ من الفساد المعلَن عنه، وقد تفاقمت خيبةُ الأمل تجاه الحكومة بعد أَن ثبت عجزُها في التصدي للمشكلات اليومية التي يعانيها جُموعُ المواطنين، وفي المقدمة منها الانفلات الأمني، وتردي الخدمات العامة، وانقطاع الكهرباء، وصولاً إلى أزمة المشتقات النفطية، وقرار الجُـرْعَـة السعرية الأخيرة.
كانت الحكومةُ تتذرَّعُ بأَن مهمتَها سياسيةٌ بالدرجة الأولى؛ كونها حكومة معنية بنقل السلطة وفقاً للمبادرة الخليجية، والتهيئة للحوار الوطني المعني برسم الخارطة المستقبلية للدولة وللمرحلة الانتقالية الثانية. وقد توصل مؤتمر الحوار بالفعل إلى مخرجات توافقية مع ضمانات عملية لتنفيذها، من بينها تشكيل حكومة شراكة وطنية كفؤة ونزيهة، إلا أَن الحكومة التي استمرت بنفس التشكيلة (مع تغيير محدود جداً)، راهنت على البقاء معتمدة على التمديد الذي جرى للرئيس هادي وفقا لتفسير المبعوث الأممي جمال بن عمر الذي اعتبر أَن المبادرة الخليجية تنتهي مع انتخاب رئيس للجمهورية وفقا للدستور الجديد المستفتَى عليه شعبياً، وذلك على الضد من طرح عدد من القوى السياسية التي ذهبت إلى القول بأن شرعية هادي تنتهي مع نهاية الفترة الانتقالية التي حددتها الآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية بسنتين، والتي بدأت مع تولي هادي الرئاسة في 21 فبراير 2012، وكان من المفترض أَن تنتهي في 21 فبراير 2014، لولا أَن هادي لا يزال رئيساً بحُكْمِ الأمر الواقع.
عودةٌ إلى التحالف القديم
مما ساعَدَ على التمديد للرئيس وللحكومة أَن طرفي المبادرة الخليجية المؤتمر الشعبي العام من جهة والتجمع الـيَـمَـني للإصلاح من جهة أخرى، قد اصطفا في الأيام الأخيرة لمؤتمر الحوار ضد فريق الحراك الجنوبي أولاً، ثم ضد أَنْـصَـار الله وفريق قضية صعدة، وبتفاهُماتٍ من خلف الكواليس، اتضح أَن الرئيسَ هادي وبدعم من رُعاة المبادَرَة الخليجية كان منسجماً مع تفاهُم المؤتمر والإصلاح، وبالذات بشأن الدولة الاتحادية وتقسيمها إلى ستة أقاليم، دون التفات إلى طروحات أَنْـصَـار الله والحزب الاشتراكي وممثلي القضية الجنوبية، الأمرُ الذي جعل البعضَ يقولُ: إن تحالُفَ حرب 1994 قد عاد إلى الواجهة مجدداً، بعد أَن ظن المراقبون أَن الـيَـمَـنيين بصدد طي ملفات الحروب، والانتقال إلى مرحلة جديدة تقومُ على العدالة الانتقالية والمصالَحة الوطنية وبناء الدولة المدنية.
هذا التحالُفُ هو ذاتُه الذي فرض صيغةً هشةً ومطاطيةً لما عُرِفَ بضماناتِ تنفيذ مخرجات الحوار الوطني، مستغلاً اغتيالَ الدكتور أحمد شرف الدين صبيحة الجلسة الختامية لمناقشة مسودة الضمانات، وهي الجلسة التي حضرها الرئيسُ هادي ليعلنَ داخلها عن اختتام مؤتمر الحوار، والتصويت على مخرجاته وسط انسحاب فريق أَنْـصَـار الله من المؤتمر.
في الأثناء كانت حربُ دماج قد اشتعلت مجدداً، واتَّسَعَ نطاقُها إلى كتاف ومناطق قبيلة حاشد، وكان واضحاً أَن هذه الحربَ التي حظيت بغطاءٍ طائفي من السلفيين والإصلاحيين وبمشاركة ميلشياتَيهم بزعم "الدفاع عن السنة" كان من أهدافها إلهاءُ أَنْـصَـار الله عن مطالبهم المشروعة والمُحقة بشأن استحقاق الشراكة الوطنية في الحكومة ومختلف المؤسسات المعنية بتنفيذِ مخرجات مؤتمر الحوار، وكذا لتفويت الفرصة على المطالبات بشأن إعادة النظر في الأقاليم المُعلَن عنها، والتي اتضح أنها تتضمَّنُ مكيدةً سياسيةً بحق أبناء الجنوب، وبحق أبناء شمال الشمال ممن جرى ضمهم إلى إقليم آزال.
تصحيحُ المسار
وهكذا، فإن الثورةَ الثانيةَ التي تشهدُها الـيَـمَـنُ، تأتي بهدف معالجة الاختلالات التي تعرضت لها العمليةُ السياسية، وتصويب المسار الذي يشتغلُ عليه التحالفُ القديمُ تحتَ غطاء تنفيذ مخرجات الحوار الوطني، بالكيفية التي توافقت عليها قوى النفوذ والفساد القديم/ الجديد.. وهي قبل ذلك تعبيرٌ عن المعاناة التي وصَلَ إليها الشعبُ الـيَـمَـني في ظل فشلِ حكومة الوفاق والتي أنهت مشوارَ الإخفاقِ بالإعلان عن جُـرْعَـة سعرية قاتلة، كانت السببَ في اندلاع الثورة الشعبية والتحام أَنْـصَـار الله بمطالبها.
وإذ أعلنت عددٌ من الأحزاب السياسية عن مبادراتٍ تتضمن استجابةً معقولةً للمطالب الشعبية، فإن الإصلاحَ الذي يعاندُ ويكابرُ، ويضغَطُ على رئيس الجمهورية ليظلَّ على موقفه المتشدد، بدا بتصرفه هذا كما لو أنه القوةُ الحاكمةُ- وليس شريكاً في السلطة فحسب- ما يجعلُه يرى في إسقاط الحكومة إسقاطاً لسلطته كحزبٍ وكقوة تضم متنفذين قبَليين وعسكريين ومشايخ دين عاشوا حياتَهم في كنف السلطة وامتيازاتها.
إضافةً إلى ذلك كان الإصلاحُ ولا يزال المسارِعَ إلى أحضان الخارج، بمناشداته المتوالية للدول العشر وتحريضه إياهم على شركائه في الوطن والمصير، ولم يفقه الإصلاحُ بعدُ أَن أمريكا وعمومَ الدول الغربية لا يهُـمُّها سوى تأمين مصالحها الذاتية فقط، وليست مخلصةً لهذا الطرف أو ذاك إلا بقدرِ انسجام المصالح المتبادلة، فالرهانُ على الخارج قد يرتدُّ على الإصلاح وغيره من القوى التي ترى في الدول العشر الوصيَّ الشرعيَّ على العملية السياسية، متجاهلين أَن الإرادةَ الشعبيةَ هي الأعلى والأمضى.
ثم أَن استنفارَ حزب الإصلاح للجماهير تحت عناوينَ طائفيةٍ، مناطقية، جهوية، وأخرى مضللة كالجمهورية، والوَحدة، قد جعله خصماً حتى للجُمُوع الشعبية التي يحشُدُها دفاعاً عن "الجُـرْعَـة السعرية".... .
إن حزبَ الإصلاح الذي يتخذُ من الشمس رمزاً انتخابياً، يدركُ اليوم أَن شعارَه لم يعُدْ ساطعاً كما كان عليه في فبراير 2011، وأنه منذُ التوقيع على المبادَرة الخليجية قد وضع قدَمَيه على سُلِّمِ الانحدار، وعلى طريق الأُفُول. وإذ تتضَافَرُ عواملُ كثيرةٌ لتفسيرِ الأوضاعِ التي وصل إليها الإصلاحُ، فإن المؤامرةَ الكبرى التي يتعرَّضُ لها الحزبُ تأتي من داخلِ صفوفِه، حيث راهنت قياداتُه على حساباتٍ خاطئةٍ ولا تزال.
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه