والعلمانية اليوم مفردة معروفة إلى درجة كبيرة، سواء لدى الغربيين الذين نحتوا هذا المفهوم وعاشوا سنين طويلة وفقاً لمتطلباته واستحقاقاته، أم للذين شهدوا في بلدان أخرى الدور العارم والمحطم للتقاليد الذي مارسته الحضارة الحدي
من ضمن سلسلة الدراسات الحضارية التي تصدر عن مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، صدر حديثاً كتاب تحت عنوان: "العلمانيّة مذهباً – دراسات نقديّة في الأسس والمرتكزات"، لمجموعة من المؤلفين. إعداد مهدي أميدي، ترجمة: حيدر نجف، والإشراف العلمي لمحمّد تقي سبحاني. (الطبعة الأولى، بيروت 2014).
حسن حمود/ خاص
يحوي الكتاب، إضافة إلى كلمة المركز، وكلمة مع القارئ ومن ثم المقدمة، ستة فصول. الفصل الأول: المجتمع العلماني: المكوِّنات والمميزات لأمان الله فصيحي. الفصل الثاني تحت عنوان "مدخل إلى العقلانية العلمانية (أفكار ماكس فيير نموذجاً) لمحمد جواد محسني. أما الفصل الثالث: "الأخلاق العلمانية أم العلمانية الأخلاقية؟ لمحمد سربخشي. الفصل الرابع: العلمانية والمعنوية لحبيب الله بابائي. الفصل الخامس: المنهج العلماني لمهدي أميدي. أما الفصل السادس: العلم العلماني والعلم الديني من منظور الدكتور حسين نصر، ورؤية نقدية لأفكاره لعلي رضا صالحي.
وجاء في كلمة المركز: قليلة هي الكلمات التي تبلغ كثرة تداولها ما بلغته مفردة العلمانية ومشتقاتها. وعلى الرغم من ذلك إلا أن هذا المفهوم ما زال ملتبساً وبخاصة في بلادنا نحن المسلمين. وما يؤكد هذا الالتباس هو أن العلمانية تفخر بتجرّدها من الأيديولوجيا، ولكن تقدّم العلمانيّة نفسها بصيغ عدّة لا توحي بوحدة هذا المفهوم أو وحدة نماذجه ومصاديقه على الأقل. وهذا يستدعي المساءلة ومعاودة البحث لتبرير هذا التنوّع.
وقد سبق لبعض المفكرين العرب التمييز بين شكلين للعلمانية سمّى إحدهما بالعلمانية الشاملة والآخر بالعلمانية الجزئية. وليست بعض هذه الدراسات المنشورة في هذا الكتاب بعيدة عن هذا المناخ وإن اختلف بعض الشيء في مقاربة الموضوع ومعالجته. ثم إنّ أهم ما تهدف هذه الأبحاث إلى توضيحه هو الأسس والمرتكزات التي ينطلق منها العلمانيون ودعاة العلمانية المذهبية في بناء تصوّراتهم وتقديم أفكارهم.
في الخطوة الأولى من هذه الدراسة أُحصيت الأبعاد المختلفة للعمانية والموضوعات ذات الصلة بها، وأوكل البحث حول كل واحد من هذه الموضوعات إلى الباحث في المجال نفسه. وبعد ذلك نُظِّم شكل كل واحد من البحوث من بدايته إلى نهايته ضمن عملية جمعية وفي ما بين الحقول العلمية. وعُمِّقت هذه العملية عن طريق طرح مجموعة مباحث الدكتور سبحاني حول العلمانية وأبعاد معانيها ومبانيها. ثم إن تعاونه في تقييم كل واحد من البحوث أضاف لها نقاطاً جديدة ودقيقة.
وعلى الرغم من كل المساعي المتظافرة والدقيقة في العلم يجب الاعتراف بأن هذه الدراسات ليست أكثر من مدخل نأمل أن يساعد في معرفة الأبعاد الواسعة وغير المعروفة للعمانية في إيران اليوم، والتي تفوِّق فيها الفكر المترجم في الموضوعات الحداثية على التأليفات النظرية وتشخيص الأسئلة المفيدة حول العلاقة بين الدين والحياة. ومن الواضح أن إنجاز هذا المشروع خصوصاً حينما يدور النقاش حول (منهج العلمانية) و(العقلانية العلمانية) و(العلم العلماني) سيكون عملية جد جسيمة وضخمة تستلزم تفكيراً وتجارب كافية، وهذا غير متاح إلا بنقود الفضلاء والمفكرين ومشاركتهم لرفع أكبر قدر ممكن من النواقص في هذا المجال وتمهيد دروب جديدة في فهم العلمانية ونقدها.
والعلمانية اليوم مفردة معروفة إلى درجة كبيرة، سواء لدى الغربيين الذين نحتوا هذا المفهوم وعاشوا سنين طويلة وفقاً لمتطلباته واستحقاقاته، أم للذين شهدوا في بلدان أخرى الدور العارم والمحطم للتقاليد الذي مارسته الحضارة الحديثة. يستخدم هذا المفهوم أحياناً للتعريف بحركة إصلاحية، وأحياناً للإشارة إلى منهج فلسفي – ربما كان إلحادياً – وغالباً للتعبير عن نموذج في الإدارة السياسية، ولا يزال هذا المفهوم على الرغم من مرور الأزمنة عليه مغلفاً بالغموض والتعمية. وهذا الخلط والغموض لا يلاحظ في الأدبيات الشرقية وحسب، بل حتى بين الغربيين. المهم أن نعلم أولاً أنه توجد مثل هذه الاستخدمات غير الصائبة، ثم نعلم أن مثل هذه الأخطاء لم تبق على مستوى اللغة والذهن، وربما انحرفت سبل تفكيرنا نحو اتجاهات خاطئة ومغلوطة.
ولو أدركنا جيداً أن هذا الموضوع ليس مجرد مسألة أكاديمية وتنظيرية، إنما له صلات وثيقة بحياتنا اليومية الدنيوية، لأفضت قضية العلمانية ومعناها وماهيتها تدريجياً إلى أن تكون مسألة واقعية ومصيرية لا يمكن المرور عليها مرور الكرام.
لذا تحاول الدراسات المنشورة في هذا الكتاب الغور في أعماق ظاهرة "العلمانية" الحديثة وعرض صورة أدق لجوهرها ومدياتها الواسعة وادعاءاتها أمام الباحثين المدققين، وفتح الباب لمزيد من التأمل والتفكير في هذا المجال، فهذه الفكرة ليست مجرد فكرة حية وناشطة في كل العالم؛ بل هي نموذج حياة عينية ملموسة، ويذهب كثيرون إلى أنها الأسلوب الحياتي الوحيد للإنسان في عالمنا المعاصر.