مهما قيل عن الطواف أو عموم الحج أو العمرة، فمن ذاق شهد الحج وحلاوة العمرة وتذوقهما بلسان التقرب الى المحبوب يطمع بالمزيد في قابل الأعوام ولو بعد حين، والتجربة أحسن برهان.
الانضباط في السلوك الاجتماعي، الانضباط في العمل، الانضباط في المواقيت، الانضباط في الحركة، الانضباط في النوم واليقظة، الانضباط في كل جزئية من جزئيات الحياة اليومية للفرد والأسرة والمجتمع والأمة، كل هذه الأمور الحيوية التي تدخل تحت مسمى "الانضباط" تشكل قيمة حضارية وبها تُعرف الأمة المتقدمة في ركب الحضارة والمدنية عن المتأخرة، ومعظم الناجحين من أعلام البشرية إذا ما دخلت الى بواطن خصوصياتهم ستجد أن التنظيم أو الانضباط هو أحد أسرار النجاح إذا لم يكن على رأس تلك الأسرار وسنامها، لأن الانضباط أولى الخطوات السليمة في طريق الألف ميل نحو الرقي والنجاح والفلاح.
قدّم هذه القراءة د. نضير الخزرجي/ خاص موقع المنار
ولأن الاسلام دين الحياة، فإن التنظيم دخل في كل تفاصيل الإنسان في مجالي المعاملات والعبادات، وفيه أوصى الإمام علي(ع) الأمة بقوله للحسن والحسين(ع): (أوصيكما، وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي، بتقوى اللَّه، ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم)، ولأن العبادات عبارة عن شعائر ومناسك وأعمال وحركات وممارسات، فإنه بالامكان ملاحظة الانضباط في مراتب الأداء.
ففي الوضوء انضباط، وفي الغسل انضباط، وفي التيمم انضباط، وفي الصلاة انضباط في الزمن وفي مراحل الصلاة الواحدة نفسها، وفي الحج انضباط، بل وتظهر أهمية التنظيم في العبادات في الحج ومراحله من حيث الزمن والمكان والحركات.
وكل منسك من مناسك الحج يقود الانسان الى الانضباط والتقيد بالتعاليم كافة وبكل حذافيرها، حتى لا يدخل الخلل منسكاً فيضطر الى الإعادة أو بطلانه، واذا كان الحج من فوائده خلق الارادة الذاتية في مواجهة وساوس شياطين الإنس والجن الذين يكثرون في مطاوي هذه الشعيرة، فإن من فوائده السلوكية هو خلق الانضباط في حركة جسم الإنسان، وهذا ما نلحظه بشكل جلي في الطواف حول الكعبة سبعة أشواط، الذي يشكل واحدة من أهم مراحل الحج والعمرة، فالحركة دورانية بحيث يكون الكتف الأيسر باتجاه الكعبة انطلاقاً من ركن الحجر الأسود والبصر الى الأمام دون الالتفات الى الخلف بكامل الجسم مع باقة من الأدعية التي تقرب الإنسان الى رب الكعبة.
شعيرة الطواف، تناول مسائلها بالتفصيل الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في كتيب "شريعة الطواف" الصادر حديثا (2014م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 104 صفحات، فيها 274 مسألة شرعية مع 48 تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، الى جانب مقدمة الناشر ومقدمة المعلق وتمهيد الكاتب، وتوزعت المسائل على العناوين التالية: أحكام الطواف (1- 59)، المستحبات المقدمة على الطواف (60- 231)، مستحبات الطواف (232- 240)، الأدعية المأثورة (241- 243)، مكروهات الطواف(244)، ومسائل صلاة الطواف (245- 274).
الرمزية في الطواف
كلما تحاول مغريات الحياة إبعاد الإنسان عن قطب العبودية لله، يظل رب العباد يمد بحبل الوصل لعبده استنقاذاً له مما هو فيه، فهو يريد له الحياة وسلامة السلوك، وكل شعيرة واجبة الأداء أو مستحبة أو ممارسة عبادية فيها لله رضا، هي محبوبة في ذاتها تزيد من العلقة بين الخالق والمخلوق، ومنها الطواف حول الكعبة، فهي كما يقول الفقيه الغديري في تعليقه: (والطواف كسائر الأعمال العبادية يزيد في الحب من الجانبين، من جانب العباد بالطاعة والتسليم، ومن جانب المعبود المحُب والمحبوب، منَّ عليهم بالتوفيق للطاعة في الدنيا ووعدهم بالرضوان في الآخرة).
وبتعبير الفقيه الكرباسي إنَّ الطواف: (بغض النظر عن معانيه اللغوية فإنه حركة تنبع من صميم الإنسان بل من صميم الأحياء بأشكالها المختلفة وحيويتها المتنوعة، إنه نابع من الشعور وربما قبل العقل، إنه حالة عاطفية منبثقة من الحب، وهو تعبير عن الحب سواء كان لمزيد الالتفاف حول المعشوق والحبيب أو للحفاظ عليه أو لكسب ودّه، وأيّاً كان الغرض المباشر فإنه نابع عن ذلك الحب وإن شئت سمّه الانجذاب المجبول مع خلقة المخلوقات ربما جميعها أو جلّها).
ولأن الطواف من الناحية اللغوية: (مصدر طاف يطوف أي بمعنى دار يدور، تقول طاف بالمكان وحوله إذا دار حوله، وفي الفقه هو الدوران حول الكعبة الشريفة بالشكل الذي فرضه الله على عباده سبع مرات)، فإن مفردة الحب في الطواف شاخصة بشكل كبير، ويذهب الفقيه الكرباسي في تقريب معنى الطواف الى التشبيه: (فالانسان عندما يُحب الشيء يحوم حوله، وإذا أحبّه ووجد المخاطر متجهة نحو حبيبه فإنه يجد من واجب الحب أن يحوم حوله ليحافظ عليه ويدرأ عنه المخاطر .. إنّ الحبيب إذا قلاه وأراد كسب ودّه بدائيا أو استمرارياً أو مزيداً على ما فيه أو إعادة العلاقة حامَ حوله، وهذا لا يختص بالانسان بل بكل الأحياء من الملائكة والجن، وحتى الحيوانات هي الأخرى كذلك).
ويضيف الفقيه الكرباسي: (فالطواف جاء التجاءً الى رمز صاحب القرار وكسب ودّه وردّ الاعتبار اليهم بالاستغفار لله الواحد القهار حبيب قلوب المؤمنين وملجأ الموحدين، وعليه فمنذ ذلك اليوم أصبح العرش مطافاً لحملة العرش والملائكة الكرّوبيّين، وأنشأ في قباله السماء السابعة الضُّراح مطافاً لسائر الملائكة، وتسهيلاً لملائكة السماء الرابعة المختصة بأمور الكرة الأرضية أنشأ البيت المعمور، ولمّا كانت الأرض أصبحت الكعبة مطافاً للملائكة والجن والإنس).
فالإنسان المخلوق من تراب الأرض بطبعه يميل الى الرمز، فكانت الكعبة الشريفة الرمز الذي يطوف حوله كمنسك عبادي، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (الكعبة لها رمزية دينية، حيث ان الانسان بشكل عام يريد شيئاً ملموساً على أرض الواقع يمثل تلك القدسية التي يعتقد بها، وبالكعبة أُمِّنَت هذه الرمزية).
فالعبادة لله وحده لا شريك له، والكعبة أو الحجر الأسود إنما هو رمز، ولذلك فإن من واجب الطواف حول الكعبة كما يذكر الفقيه الكرباسي: (القُربة: شرط عبادي، فمن لم يقصد التقرّب الى الله تعالى لا يتحقق الطواف الذي هو أمرٌ عبادي فلا يُقبل منه)، وهذه القربة لازمة في كل عبادة أو منسك أو شعيرة أو ممارسة واجبة أو مندوبة.
مطافات جديدة
لاشك ان تطور حركة المواصلات وتنوعها وسهولتها بشكل عام لمن يستقل الخطوط الجوية، أحد عوامل ارتفاع أعداد الحجاج والمعتمرين الذين يرغبون في أداء مناسك الحج والعمرة، ولكن الكثرة بطبيعة الحال بحاجة هي الأخرى الى زيادة سعة الرقعة الجغرافية لاستقبال الحجاج، ولما كان خصوص الحج محكوماً بمساحة جغرافية معينة لا يستطيع المحرم تجاوزها أثناء الحج، فإن الإزدحام بات هو السمة البارزة للحج في العقود الأربعة المنصرمة.
وتزداد المشكلة على وجه الخصوص في الطواف حول الكعبة لأن الحاج عليه خلال أداء أشواط الحج السبعة أن لا يخرج عن مدار الطواف وهو داخل باحة المسجد الحرام قدر المستطاع، ذلك: (أن المدار الاول للطواف لا يتجاوز من جميع أطرافه أكثر من 12 متراً)، ولكن: (مَن لم يتمكن من الطواف في هذا المدار لعُذر والذي منه الزحام وكثرة الحجيج، صحّ الطواف خارج هذا المدار من مراعاة الأقرب فالأقرب)، ولما كان الطواف يتحقق في زمان واحد لجميع الحجاج وخاصة يوم العاشر من ذي الحجة، فإن البيت يضيق بحجاجه وتطول فترة الطواف لشدة الزحام وقلة الحركة واتساع مدار الطواف وابتعاده عن جدار الكعبة.
ولما كان الفقيه الكرباسي قد أدى الحج والعمرة منذ عام 1975م لأكثر من عشر مرات وعاش التجربة بنفسه، فإنه تقدم باقتراح: (طرحته على بعض المسؤولين على الديار المقدسة أيام إقامتي في بيروت بأن يُنشئوا حول الكعبة مطافاً منحدرا من الأعلى، بحيث يبدأ من الحجر الأسود ويدور حول الكعبة وينتهي به، مكمّلا بذلك سبعة أشواط ويخرج من القبو، وعندها يتمكن الجميع من الطواف حول الكعبة بيُسر دون أن يوجب السهو أو الخطأ أو الزحام، ويكون هذا المطاف متحركاً بحيث يمكن أن يُزال بعد عشرة أيام الزحام مثلاً).
وفي الإطار نفسه، يقول الفقيه الكرباسي الذي خط هذا الكتيب في لندن يوم 25/5/1429هـ (30/5/2008م): (إذا بُني طابق للمطاف، جاز الطواف حول الكعبة من الطابق الثاني، بل الى عنان السماء، والعكس أيضا صحيح بأن يطوف في الطابق تحت الأرض)، وقد تحقق هذا الأمر ولأول مرة حيث تم عام 2012م وضع حجر الأساس لبناء مطافات عائمة حول الكعبة تنتهي في العام 2016م وقد تم افتتاح المطاف المؤقت في حج عام 1434ه (2013م)ـ، ومع انتهائه سيكون بامكان المطافات الأرضية والعائمة استيعاب 130 ألف حاج في الساعة الواحدة بدلاً من 48 ألف حاج في الساعة خلال الذروة.
وعلى عكس ما نجده في المطارات العالمية من شريط متحرك يقف عليه المسافر مع حقيبته تكفيه مؤونة الحركة، فإن الله في الطواف يريد من الإنسان الحركة بنفسه ليرى مدى قربه وحبه، ولذلك يرى الفقيه الكرباسي: (إذا وُضع حول الكعبة حزام متحرك، لا يصح الطواف لأنه بذلك يفقده إرادة الحركة، وإذا قادت الطائف قاطرة أو سيارة، لا يصح أيضا إذا لم تكن بقيادته، إلا مع عدم القدرة على ذلك كالمريض)، نعم: (لا يجب أن يكون الطواف مشياً على القدمين حتى على القادر، بل يجوز أن يركب الدابة ويطوف أو يركب دراجة ويسير، ولكن المشي أفضل لأنه أكثر ثواباً)، كذلك: (إذا كانت هناك آلة معدة لطواف العاجزين، صحّ ذلك، ومن المفروض أن يقدّم القدرة على قيادة الطائف على أن يقوده آخر).
وفي الواقع فإن للطواف طعما عبادياً خاصا يتذوقه الطائف والذي ينتهي بلمس الحجر الأسود وتقبيله إن أمكنه ذلك، ويتلمسه بقلبه وبصره الناظر الى الطائفين من على سطح المسجد الحرام وبخاصة في الليل، حيث يرى أمواجاً بشرية تتحرك عكس عقارب الساعة وهي تلهج بذكر الله، من الشرق باتجاه الشمال ثم الغرب ثم الجنوب، وهي حركة متطابقة تماماً مع حركة الأجرام والذرات، فكل ما خلق الله يدور من اليمين الى اليسار، ويأتي الطواف منسجماً تماماً مع البيئة القريبة والبعيدة، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (إن حركة الطائف حول الكعبة هي في اتجاه الجريان، حالها حال الذي يسبح مع تيار الماء وجريانه، فإنه يسبح بكل سهولة وراحة، فإن السير بخلافة يوجب له المتاعب، والطواف مع جريان الكون يكون مريحاً وإن لم يشعر به بشكل ملموس، إلا أن تناغم حركة الكترونات الجسم والأرض والكون تساعده على الحركة وتتلاءم معه في كيان بدنه، فلا تسبب له خللاً وإن خفيت عليه، ومن جهة أخرى فإن الله أراد أن تكون حركته وفق سنّته في الحياة، وعندها تتطابق الأحكام الشرعية مع القوانين الفيزيائية المستخدمة في الكون).
في الواقع ان المسائل الشرعية التي تداولها الفقيه الكرباسي حول الطواف وما يلحقه من ركعتين خلف مقام إبراهيم كثيرة ومتشعبة، ولكن ما يلفت النظر في بعضها تقدم العامل الاجتماعي على العامل الفردي حتى في مجال الانشغال بالعبادة والارتباط مع الرب، وذلك للأهمية الكبرى التي يوليها الإسلام للمجتمع وشد لحمته، ورغم أن الطواف بأشواطه السبعة يقتضي فيه التوالي العرفي غير المخل، فإنه: (يجوز قطع الطواف واجباً كان أو مستحباً للضرورة ولا يبطل طوافه إذا أتمّه أربعاً ثم يعود ويتمه)، ومن ذلك: (يجوز قطع الطواف بعد اتمام الشوط الرابع إذا أراد تلبية حاجة مؤمن أو مراقبة مريض أو جواب على مسألة أو ما شابه ذلك ثم العودة لإكمال طوافه). بل ومن مستحبات الطواف كما يضيف الفقيه الكرباسي: (أن يدعو للمؤمنين والمؤمنات ويطلب حاجته وحوائجهم).
في حقيقة الأمر، مهما قيل عن الطواف أو عموم الحج أو العمرة، فمن ذاق شهد الحج وحلاوة العمرة وتذوقهما بلسان التقرب الى المحبوب يطمع بالمزيد في قابل الأعوام ولو بعد حين، والتجربة أحسن برهان.