إن أية قراءة وطنية قومية وطبقية لاقتصاد الأرض المحتلة تشترط النقد الحامض للذات وليس التطريب الاقتصادي بالتسكين من العدو. وهذا النقد يصل إلى التقنيين الاقتصاديين الذين كانوا ولا يزالون ضد فك الارتباط باقتصاد العدو
يمثل المصرف الدولي في الأرض المحتلة وجهاً من وجوه الاحتلال/ الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. هو، إلى جانب صندوق النقد الدولي، الهيئة الفنية للاستعمار الغربي الرأسمالي في الأرض المحتلة باسم المانحين، أو المثقف العضوي المعولم للرأسمالية المعولمة بتوسيع مفهوم غرامشي الثقافوي باتجاه الاقتصاد السياسي.
فقد جاء المصرف الدولي مع رزمة محادثات مدريد واتفاق أوسلو وخلية العمل الاقتصادي المكونة من فريق «صهاينة عرباً ويهوداً/ إسرائيليين»، التي ترأسها ستانلي فيشر في «هارفرد»، والمكوّنة من اقتصاديين فلسطينيين وأردنيين وصهاينة إسرائيليين ومصريين، والتي أنتجت دراسة جاء وليدها بروتوكول باريس.
صحيح أنّ دور المصرف الدولي فرضه على الفلسطينيين أساطين التسوية، ولكن إذعانهم لوصفاته منذ 21 سنة هو مثابة استدعاء له بما هو نقيض للموديل التنموي الممكن الوحيد وبصعوبة، اي التنمية بالحماية الشعبية لمقاومة استعمار استيطاني اقتلاعي.
لنتذكر أنّ سلطة أوسلو ــ ستان هي أول سلطة تبدأ حياتها رضيعة من وصفات هذا المصرف، (كتاب عادل سمارة: «البنك الدولي والحكم الذاتي: المادحون والمانحون 1997)، منذ يومها الأول، ما يقوّض أية تحولات حتى لإصلاح اقتصادي، فما بالك برغبات تنموية. وبالطبع، هذا النفي القاطع يتناقض مع موظفي المصرف، سواء الموظفون الرسميون أو الليبراليون أو النيوليبرالييون الذين ينضوون في الكادر الثقافي للمصرف دون وظائف فيه، بما هم مثقفون عضويون لرأس المال.
لم يكن للمصرف الدولي أي موقف ضد وجود الاحتلال. فجميع أدبياته تنطلق من التسليم بوجود الاحتلال، والدعوة إلى تعميق العلاقة الاقتصادية بين المستعمِر والمستعمر. وكل ما يطلبه المصرف الدولي هو تحسين شروط الاستعمار في المستوى الاقتصادي (تقديم تسهيلات) أي حبوباً مليِّنة للإمساك الاقتصادي لمناطق أوسلو ــ ستان. وهذا يعيد إلى الذهن مقولة وزير خارجية العدو الأميركي الأسبق جورج شولتز عام 1982، كما أعتقد، بعد خروج المقاومة من لبنان إلى تونس: «تحسين شروط المعيشة للفلسطينيين»، بمعنى أن هذه القضية هي قضية إنسانية لجوئية وليست مسألة صراع تناحري مع استعمار استيطاني اقتلاعي. هذا مع أن المطلوب لاقتصاد المناطق المحتلة بحده الأدنى هو فك الارتباط باقتصاد الكيان.
قبل اتفاق أوسلو، أي عام 1993، طلب موظف من هذا المصرف الحديث معي حيث كانت له بعثة في المناطق المحتلة 1967 (قبل أن تصبح أوسلو ــ ستان). كان سؤاله الأول: ما رأيك في النظام البنكي في الضفة والقطاع.
طبعاً ليس الرجل جاهلاً، ولكنه ينطلق من خلفية مبرمجة بأن الاحتلال أمر طبيعي، بمعنى الأبيض الصهيوني يحكم الفلسطيني المتخلف. فهو لا يرى، أو مطلوب منه ألا يرى، أن هذا استعمار استيطاني، لأنه إن رأى فسوف يضطر إلى القول بوجوب اقتلاعه. قلت له لا يوجد هنا نظام بنكي. لقد أغلق العدو المصارف المحلية والأجنبية بعد وقت قصير من احتلال 1967. ما هو موجود هنا هو 38 فرعاً، كفروع للمصارف التجارية الصهيونية الأم داخل المحتل 1948. وانتهت المقابلة.
عوّدنا المصرف والصندوق الدوليين أن يصدرا تقارير عن أوسلو ــ ستان، وخاصة تقريرين سنوياً وتقريراً كبيراً للصندوق في ايلول. في كل ايلول للسنوات الثلاث الماضية كانت تقاريرهما وردية عن هذه المناطق، حيث احتوت على تغزُّل بالنمو الاقتصادي الذي بلغ «حسب فنِّييهما» 8 إلى 9 في المئة.
أما اليوم، فيقول المدير الإقليمي للبنك الدولي في الضفة الغربية وغزة ستين لاو يورجنسن: «بالنسبة للقوى العاملة، هنالك شخص واحد من كل ستة فلسطينيين في الضفة الغربية وتقريباً واحد من بين اثنين في غزة عاطلون من العمل حتى قبل اندلاع الصراع الأخير في القطاع، وهذا وضع غير مستدام... أشار البنك الدولي إلى أن عام 2014 قد شهد استمرار تدهور الاقتصاد الفلسطيني، وبصفة خاصة في قطاع غزة الذي شهد وضعاً مزرياً حتى قبل اندلاع الصراع الأخير. وخلال الفترة الواقعة ما بين عامي 2007 و2011، تجاوز متوسط النمو الاقتصادي السنوي نسبة 8%، إلا أن هذه النسبة تراجعت خلال عام 2013 لتصل إلى 1.9%، كما وصلت إلى ناقص 1% في الربع الأول من عام 2014».
لكن التقرير لم يقل لنا ما هي الأسباب الكبرى التي أنزلت النمو الزاهي إلى انكماش حاد في فترة زمنية قياسية من حيث القِصرٍ! هذا إضافة إلى حشو مطول في هذه التقارير من الإحصاءات والقراءة الرياضية للاقتصاد، إذا أضفنا كذا ينتج كذا... إلخ في نطاق العمالة والميزان التجاري... وطبعاً كان ذلك في فترة رئاسة د. سلام فياض للوزارة، وهو الذي نقل اقتصاد المناطق المحتلة من الليبرالية إلى النيولبرالية! وكأن الأمر هو إطراء فياض بما هو سليل هذه الطائفة من فنيي رأس المال.
ورغم إشارة تلك التقارير إلى التمويل المسموم (الأجنبي)، لم توجه إليه نقداً ولا نُصحاً، كذلك لم تُشر إلى أن هذا «النمو» الانتفاخي هو نتاج ذلك الريع المتأتي من «المانحين»، ولم يأت النمو من شغل إنتاجي في قطاعات الاقتصاد الإنتاجية المحلية. كذلك لم يذكر كثيراً من عيوب هذا الاقتصاد، وخاصة دوره التوظيفي وليس الاستثماري التشغيلي، مما حول الذين في عمر العمل إما إلى موظفين أو مصطفين في طابور انتظار التوظيف، علماً بأن هذا التراكم التوظيفي هو أحد مداخل تقوية السلطة، مما يخلق لها قاعدة دعم في الوقت العادي تتحول إلى فاشية حين الضرورة أو إذا ما قوي عودها، بأن يعطيها الاحتلال صلاحيات أوسع تترجمها إلى تثقيب يدها على الناس (منذ توقيع اتفاق أوسلو جرت سلسلة اعتقالات ومحاولات اغتيال لمعارضين سياسياً للاتفاق، آخرها ضد د. حسن خريئة، وقد عقد عدد منهم مؤتمراً صحافياً يوم 20 ايلول الجاري. هذا فضلاً عن تصفية كثير من مسلحي المقاومة).
في تقريره الأخير، يعدُنا المصرف الدولي بصورة وردية بلا أساس، تماماً كما هيّأ لنا في السنوات الثلاث الماضية «واقعاً» وردياً زائفاً. الصورة المفترضة تختلف هذه المرة عن النمو الانتفاخي السابق. يتحدث التقرير عن أزمة أقتصادية يمكن حلها وتجاوزها إذا قدم الكيان الصهيوني تسهيلات للفلسطينيين، وخاصة في مناطق (ج) التي هي تحت الاحتلال الكامل وتشكل 60 في المئة من مساحة الضفة الغربية، وليس سوى 1 في المئة منها بيد السلطة الفلسطينية.
يجادل تقرير المصرف بأن قيام الكيان بتوفير تسهيلات يمكن أن ينتج منه عودة زراعة الحبوب والمحاصيل الحقلية في هذه المناطق، مما يزيد الإنتاج الأهلي الإجمالي بما يقارب 3.4 بلايين دولار كقيمة محتملة سنوياً، أو 35 في المئة من الإنتاج المحلي الإجمالي لعام 2011 إذا ما سُمح للفلسطينيين بتطوير المناطق المذكورة. وهذا يساهم في تخفيف العجز في ميزانية تلك المناطق.
لكنّ اقتصاديي المصرف الدولي، وقد أُخذوا بنتائج الموديلات والمعادلات ذات الأرقام المبهرة، لم يأخذوا في الاعتبار أموراً مهمة مثل:
ــ إن تخفيف القيود الصهيونية لا ينفي سيطرة اقتصاد الكيان سواء بإغراق الأسواق المحلية ومنافسة المنتج المحلي، وهي إشكالية شرط حلها هو على الأقل فك الارتباط باقتصاد الكيان.
ــ إن حرية الاستيراد والتصدير هي بيد الاحتلال، مما يسمح له بإعاقة هذين النشاطين.
ــ إن الإهمال المديد الذي وقع على أراضي منطقة (ج) يحتاج إلى سيولة مالية هائلة لن يوفرها المانحون، لأنها ليست من أولياتهم، كما أنها ليست على أجندة السلطة الفلسطينية التي يذهب جلّ ميزانيتها إلى الأمن على شكل أجور ورواتب.
ــ كانت هناك ميزانية بيد الرئيس الراحل ياسر عرفات موازية للميزانية الرسمية، وهذه ظاهرة خاصة غير مألوفة، قد يكون تفسيرها الوحيد أن هذه السلطة تعيش حالة مزدوجة بين ماضي حركة مقاومة سرية وحاضر شكل دولاني غير مبلور ولا سيادي. لا ندري هل لا تزال الميزانية الظل موجودة أم لا؟ وبالطبع كان المصرف الدولي والمانحون صامتين تجاهها وحتى تجاه الفساد، وكأن هذا من أجندتهما!
ــ إن السلطة الفلسطينية ليست ذات توجه حتى إصلاحي للاقتصاد، فما بالك بتنموي.
ــ إن القطاع الخاص الذي يحابيه ويمتدحه المصرف الدولي والمانحون يوظف 6 مليارات دولار في اقتصاد الكيان من جهة، ومن جهة ثانية يدخل في تعاقدات من الباطن مع اقتصاد الكيان، وأخطر من هذا متورط في مجلس أعمال إسرائيلي فلسطيني مشترك (أي نقيضاً لفك الارتباط والتنمية بالحماية الشعبية).
ــ هذا إذا لم نُشر إلى تدهور ثقافة العمل في الأرض لدى الفلسطينيين، سواء لضعف مردودها أو لتجذر ثقافة الاستهلاك بدل الوعي بالاستهلاك وثقافة البحث عن الوظيفة إلى حدّ أصبح من هم في عمر العمل بين موظف وبين من يصطف في طابور البحث عن وظيفة.
ــ ورغم أنّ الأرض مركز الصراع، كثير من الأراضي في المناطق التي تديرها السلطة الفلسطينية هي مهملة!
لم يكن للمصرف الدولي أي موقف ضد الاحتلال فجميع أدبياته تنطلق من التسليم بوجوده
ــ خلاصة القول هنا، إن أية قراءة وطنية قومية وطبقية لاقتصاد الأرض المحتلة تشترط النقد الحامض للذات وليس التطريب الاقتصادي بالتسكين من العدو. وهذا النقد يصل إلى التقنيين الاقتصاديين الذين كانوا ولا يزالون ضد فك الارتباط باقتصاد العدو مأخوذين بالانبهار بالعدو (نموذج هؤلاء د. رجا الخالدي – خبير الأسكوا ويعمل في مركز دراسات التنمية في جامعة بير زيت ــ حيث دعا إلى وحدة اقتصادية بين الكيان وغزة والضفة وفلسطينيي 1948 حينما كانت الليبرالية هي وجه اقتصاد السلطة الفلسطينية، ليعود ويشهر سيف قتال النيولبرالية أخيراً!).
ولعل ما يشجع المصرف الدولي على الصرف المتواصل لهذه الوصفات، أن كثيراً ممن لهم علاقة بالأمر يُطرون على دوره ووصفاته، كما فعل ممثل «الرباعية» توني بلير الذي أثنى على طلب المصرف أن يقدم الكيان تسهيلات للفلسطينيين. وبلير هو السفاح الفاشي البريطاني الذي شارك بوش في تدمير العراق ويمثل بريطانيا التي خلقت الكيان الصهيوني!.
ويشاطره في هذا وزير اقتصاد سابق في أوسلو ــ ستان د. سمير عبدالله، ومدير مؤسسة ماس للسياسات الاقتصادية حالياً: «... حيث امتدح تقرير المصرف الدولي واعتبره تقويماً موضوعياً»، بينما التقويم منحاز إلى الاحتلال، لأنه لا يبدأ من وجوب خلع الاحتلال.
يزعم التقرير أن التسهيل في منطقة البحر الميت سيوفر فرص عمل لاستخراج المعادن والسياحة، وأن الاقتصاد الفلسطيني سوف يكسب 918 مليون دولار، أي 9 في المئة من الإنتاج الأهلي الإجمالي لعام 2011، إذا ما تم استخراج معادن مثل البوتاس والبرومين. كذلك فإن قطاع السياحة الفلسطيني يمكن أن يحصل سنوياً على 126 مليون دولار، أي 1 في المئة من الإنتاج الأهلي الإجمالي لعام 2011، إذا ما أقيم منتجع فندقي شبيه بالذي للأردن و«إسرائيل». كذلك أيضاً، فإنّ انتعاشاً سيصيب أعمال المقالع والبناء والاتصالات إذا ما حصلت تلك التسهيلات في منطقة (ج) التي حسب اتفاق أوسلو يجب أن تكون قد أعيدت إلى السلطة الفلسطينية عام 1998.
يؤكد المصرف الدولي أنّ النمو الاقتصادي، طبقاً لوصفاته، سيقود إلى زيادة مباشرة في دخل الحكومة من الضرائب، والذي قد يصل إلى 800 مليون دولار، حتى من دون الاضطرار إلى زيادة ضريبية، وأن هذا التطور يحمل إمكانية تقليص العجز النقدي بمقدار النصف، ويقلل من الاعتماد المتكرر على دعم المانحين.
ولكن بمناسبة زعم عدم زيادة الضريبة، فإن حكومة فياض قد فرضت السقف الأعلى للجباية الضريبية، وليس واضحاً إن كان هذا قد طال قمة رأس المال الخاص. كذلك ضاعف رسوم المعاملات اليومية للناس إلى حدّ يقارب التقسيط. ومع ذلك، لم تجرؤ نقابة المحامين ولم تتطوع مجموعة محامين لتشكيل لجنة تقيم دعوى ضد سياسات التقشيط هذه، وهذا الأمر لا يزال برسم هؤلاء ليفعلوا شيئاً.
قد نختم بالسؤال إلى المصرف الدولي: لماذا يدفع المانحون أموالاً لاقتصاد يمكن (حسب موديلات المصرف الدولي) أن يتخلص من العجز وأن يستغني عن دعمهم إذا ما قدم الاحتلال بعض التسهيلات؟ أي لماذا لم يضغط المانحون على الاحتلال لتخفيف يده، بعد عقدين وعام من اتفاق أوسلو؟ ألا يكشف هذا أن المانحين معنيون بعجز الاقتصاد المحلي وبتقويض قطاعاته الإنتاجية وبإعادة إنتاج تخلفه وتبعيته، لأن بنية تابعة متهالكة تعتمد على الريع المالي المخصص لانتزاع تنازلات سياسية (أي مالاً مقابل وطن) هي الفضلى لتقويض المقاومة واعتماد منهج الحياة مفاوضات، بدل الحياة مقاومة.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه