يتم تزوير التاريخ بالجغرافيا الإنسانية فيه، تُشطب هوية الأوطان بأرضها وأهلها لاستحضار الأقليات المبعثرة التي حافظت على وجودها على مر العصور فلا هي قاتلت فاتحاً ولا هي تصدت لغاز، بل اشترت سلامتها بالاستسلام للأقوى
يتم اغتيال تاريخ الأرض العربية وهوية أهلها الذين يبدأ بهم التاريخ، علناً، وأمام عيونهم وهم يتابعون العملية بتسليم العاجز. تُنبش الأعراق والهويات العتيقة، تستحضر الطوائف والعناصر السابقة على الأديان، وتحديداً في العراق وسوريا مع تمدد إلى لبنان، لكي يتم نفي أو شطب الهوية الجامعة.
يتم تزوير التاريخ بالجغرافيا الإنسانية فيه، تُشطب هوية الأوطان بأرضها وأهلها لاستحضار الأقليات المبعثرة في مناطق الأطراف التي حافظت على وجودها الرمزي على مر العصور فلا هي قاتلت فاتحاً ولا هي تصدت لغاز، بل اشترت سلامتها بالاستسلام للأقوى تجنباً للإبادة.
اختفى «العرب» من العراق، وإلى حد ما من سوريا.
صار العراقيون «سنَّة» بمرجعية سعودية أميركية و«شيعة» بمرجعية إيرانية أميركية... وصار «السنَّة» عرباً بأرجحية كردية وبعض التركمان، في حين صار «الشيعة» عرباً بأرجحية عشائرية بدوية تصلهم ببدو الحجاز ونجد مع وصمة «إيرانية» تستثمر سياسياً لاستعداء العرب وغير العرب من السنَّة عليهم...
ولا مانع إن تلاقى الجميع، عرباً وكرداً وتركماناً وأشوريين وكلداناً وشيعة وإيزيديين وصابئة في أحضان الولاء للمحتل الأميركي، سابقاً، الذي يلبي نداء الاستغاثة حالياً فيهرع بطائراته «المن دون طيار» لاستنقاذ هذا المزيج البشري الفريد في بابه في العالم... متجاوزاً «الحدود الدولية» بين سوريا والعراق، والتي تجاوزها قبله مقاتلو «الدولة الإسلامية في العراق والشام» بالسيف، من أجل استعادة أمجاد الخلافة بعد بعث نسخة مزورة من الدين الحنيف.
«داعش» أممية، لا تعترف بالدول ذات الحدود والتي تفصل بين المسلمين حيثما وُجدوا. كذلك «الامبريالية» أممية لا تعترف بالحدود بين الدول، فالدولار هو «السيد» في كل مكان، والطائرات المن دون طيار لها الفضاء كله من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق.. وهكذا تلاقت «الامبرياليتان» على نفي وجود «العرب»، كل العرب، بامتداد هذه الأرض بين المحيط والخليج.
ومَن «العرب» إذا كان العراقي شيعياً أو سنياً أو كردياً أو إيزيدياً أو تركمانياً؟ ..وكان السوري سنياً أو علوياً أو درزياً أو أرثوذكسياً أو إسماعيلياً أو كردياً أو تركمانياً، أو بعض القبائل البدوية التي لم تعرف الحدود بين مضاربها في رحلتي الشتاء والصيف؟!.. فأما اللبناني فهو خليط كوزموبوليتي تتلاقى فيه الهويات جميعاً فتتمازج لتخلص إلى استيلاد مخلوق أممي متعدد الأعراق والهويات.
وأما الأردني فخليط من البدوي التائه المقطوع عن جذوره العراقية والسورية، والكنعاني الوافد من فلسطين التي صُيِّرت دولة إسرائيل، وبعض الشركس الذين جيء بهم من رحلة هروبهم عند قيام الاتحاد السوفياتي ليكونوا حرساً للأمير عبد الله الذي صيَّرته «نكبة فلسطين» ملكاً بنسبه الهاشمي الذي جاء به من الحجاز.
أما المصري فهو فرعوني خالطه بعض عرب الفتح الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص، ثم جاء بعض أهل المغرب مع باعث الدعوة المهدية فتولوا عرش مصر باسم «الفاطميين» رداً على «الأمويين» في بلاد الشام، الذين خلعهم «العباسيون» الوافدون من شبه الجزيرة واستمروا حاكمين بالاسم، بلا حكم، حتى جاء المغول فدمروا بغداد وأسقطوا الخلافة ليرث بعض ملكها المماليك الذين جيء بهم جنوداً من شرق أوروبا وبلاد الأناضول... وأين العروبة في مصر وصحراء سيناء تمنعها عن المشرق ببدوها، في حين ترفعها الفرعونية فوق العرب بينما تتكفل تركية الملك المملوكي ألباني الأصل محمد علي الذي هزم الوهابية في عقر دارها بالحجاز بنفي التعريب وتأنف من الانتساب إلى القبائل وترتد إلى فرعونيتها المطعمة بكثير من الإسلام السني وإن ظل في تراثها شيء من الشيعية فضلا عن موروثها القبطي الأرثوذكسي؟!
وأما الليبيون فقبائل متعددة الأعراق: فيها شيء من بدو المشرق الذين جاء بهم الفتح الإسلامي، وفيها شيء من بقايا الفينيقيين، وفيها بعض البربر في غربها وبعض قبائل التبو في جنوبها، فضلاً عن مخلفات الاحتلال العثماني ثم الاحتلال الإيطالي.. فأين العرب والعروبة؟!
أما التونسيون فخليط من الحضر والبدو، بعضهم من أصول عربية، وثمة متحدرون من الفينيقيين حفظة تراث قرطاج وملكتها أليسار التي جاءت من ساحل صور في لبنان، وثمة بعض البربر وبعض الأعراق الأفريقية، ثم الفرنسة التي دمغت المجتمع وزينت له التغرب.
فأما الجزائر فلم تكن عربية في أي يوم قبل ثورتها التحررية التي جعلتها عربية في الدور السياسي، وإن عز على شعبها تعلم اللغة العربية التي كان الاستعمار قد فرض عليه هجرها إلى لغته الفرنسية..
وأهلها خليط من قبائل عربية جاءت مع الفتح الإسلامي، بكثرة يمنية، والبربر الذين يشكلون حوالي الثلث من أهلها، ثم «الشاوية» الذين يمثلون نسبة كبيرة، فضلاً عن المتحدرين من أصول أفريقية وقد عرَّبهم انتشار الدين الإسلامي،
فأما المغرب فإن أهله مزيج من البربر والعرب والأندلسيين الذين يتحدرون من أصول عربية تخالطها دماء إسبانية، وقد عادوا بعد هزيمة العرب في الأندلس محافظين على تميزهم، وفيهم أفارقة اندمجوا في المجتمع فاستوعبهم وأعطاهم هويته المغربية المختلطة.
أين العرب إذاً في هذه الدنيا الفسيحة، بعيداً عن شبه الجزيرة العربية بيَمَنها وحجازها ونَجْدها مع ملاحظة أن «العرب» في الخليج هم الأقلية بين سكانه؟!
العرب كما العروبة هوية سياسية أكثر منها تدليل على عرق وأنساب.. بهذا المعنى فهي إذا ما ارتضاها أهل هذه البلاد فتشرفوا بها هوية سياسية جامعة، لا علاقة لها بالأنساب والأصول والأديان والمذاهب، وضمنها العرق وأرض المنشأ وهويته. ولقد جمعتهم هذه الهوية على أهداف سامية كالتحرر من الاستعمار، والإيمان بشراكة المصير حاضراً ومستقبلاً.
على أن هذه الهوية السياسية الجامعة قد أسقطتها المزايدات والمناقصات بين الأنظمة التي حكمت باسمها فذهب بعضها يساراً حتى تجاوز كاسترو في كوبا (في اليمن الجنوبي قبل سقوط دولته)، في حين رفع بعض آخر شعارات الاشتراكية بينما هو يكرس حكم العائلة بل الفرد، ويحتكر لخاصته الثروة ومواقع السيطرة والامتيازات، بينما أقام البعض الثالث حكم «الرفيق القائد» بعزوته الشخصية والمخابرات متعددة الأجهزة والتي يشمل نطاق عملها الأحلام.
انقسمت الأنظمة «تقدمية» و«رجعية»، و«حدوية» و«انفصالية»، لكن سلوكها ظل واحداً. كان شعار «تحرير فلسطين» ميزة للأنظمة التي صنَّفت ذاتها «تقدمية» وركزت حملاتها على خصومها من «الأنظمة الرجعية» باتهامها بالتخلي عن فلسطين، والاندفاع في الولاء للغرب بقيادته الأميركية المفردة، بعد سقوط «الشريكين المتقدمين (البريطاني والفرنسي) في العدوان الثلاثي على مصر.
لكن الشعار ظل شعاراً، ولعله قد سقط عملياً مع خروج مصر من الحرب بعد إسقاط السادات الحُرم وقيامه بزيارة «العدو الإسرائيلي» في القدس المحتلة، ثم اندفاعه لعقد معاهدة السلام في العام 1978، مقرراً أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب مع إسرائيل التي أخرجها من دائرة «العدو».
ولقد اعترض السوري، الشريك في «حرب تشرين» على المعاهدة، لكنه حين وجد نفسه وحيداً وافق على «اتفاق فض الاشتباك» مع العدو الإسرائيلي، وساد وقف إطلاق النار على الحدود مع فلسطين المحتلة وهو ما زال سائداً حتى اليوم (إلا في غزة..). أما «منظمة التحرير الفلسطينية» فقد تعجلت اللحاق بقطار التسوية، بالشروط الإسرائيلية، فذهبت إلى أوسلو لعقد اتفاقها الخاص مع العدو الإسرائيلي،
قبيل ذلك كان صدام حسين قد غزا الكويت 1990، رداً على نكول أهل النفط عن تعهدهم بالتعويض عليه خسائر حربه على إيران الثورة الإسلامية باسمهم ونتيجة تحريضهم.. مستدرجاً الحرب الأميركية عليه بغطاء عربي شبه جامع. وبعد إخراجه من الكويت تُرك ينزف حتى آذار 2003 فاجتاحت القوات الأميركية العراق واحتلته، وسلمت صدام حسين بعد أن اعتقلته إلى «خصومه» من الشيعة ليتولوا إعدامه في منظر منفر سيؤسس لانشقاق العراقيين ومن ثم العرب على قاعدة مذهبية.
تحولت تلك اللحظة الفارقة من مناسبة لتلاقي الجميع في مواجهة الاحتلال (إسرائيلياً في فلسطين وأميركياً في العراق) إلى منطلق لانشقاق خطير سيستولد مناخ حرب أهلية في المنطقة عموماً، بدءاً بالعراق تمدداً إلى سوريا، لم تخفف منه، ولو إلى حين، إلاّ الحرب الإسرائيلية على لبنان في صيف العام 2006 التي هزمتها مقاومته الباسلة والتفاف الشعب من حولها.
وبدل أن يكون النصر في لبنان مناسبة تاريخية لاستعادة وحدة الصف، شنت جهات عربية نافذة بقوة النفط فيها حملات شعواء على هذه المقاومة من خلال اتهامها بالولاء لمرشد الثورة الإسلامية في إيران.
وفي الحرب بين السنة والشيعة يندثر «العرب» ويستعاد تاريخ الفتنة، ويتفرق الشعب الواحد أدياناً وطوائف ومذاهب ثم أعراقاً وعناصر، كانت شهادة لترفّع «العرب» عن العنصرية، وباتت الآن شهادة ضدهم، تكاد تلغي جدارتهم ببناء «الدولة»، كما بتأكيد وحدتهم في مواجهة الطغيان الداخلي والاحتلال الخارجي.
وها نحن ندخل التاريخ المزور لهذه الشعوب التي كانت ذات يوم «خير أمة أخرجت للناس..» وباتت الآن تطلب الاحتلال برجاء يكاد يتحول إلى تسول!..
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه