الصحيح والمؤلم أن ثمة إرادة عربية رسمية بـ«اقتلاع» فلسطين من وعي ووجدان ونضال هذه الأمة، ولذلك أريد تبديل الأولويات بعد ثورات الربيع العربي، وتوجيه «أهل الثغور» الافتراضيين الى العراق وسوريا ولبنان
منذ صوّب عبد الله عزّام الفلسطيني مسدّسه ناحية أفغانستان بدعوى محاربة النظام الشيوعي، لا تزال بوصلة جموع متناسلة من المقاتلين تشير الى كل مكان في العالم باستثناء فلسطين، وكأنما صمّم «الجهاد الأفغاني» لوظيفة محدّدة.
وفيما أعادت الثورة الإيرانية الروح إلى القضية المركزية للعرب والمسلمين عام 1979 حين أغلقت السفارة الاسرائيلية وفتحت مكانها أبواب سفارة فلسطين، وخصّصت آخر جمعة من شهر رمضان من كل عام لإحياء يوم القدس العالمي، وأرسيت حينذاك أسس المقاومة الفلسطينية المسلّحة، كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الشرق الأوسط وخصوصاً السعودية ودول خليجية وباكستان تعمل على فبركة قضية بديلة، هي محاربة النظام الشيوعي في أفغانستان، البلد الذي لم يكن حاضراً في أدبيات الاسلاميين من ذي قبل، ولا كان مدخلاً رئيساً ولا فرعياً في أي لحظة لمشروع التغيير في الأمة.
بل على العكس من ذلك، وجد العرب والمسلمون أنفسهم أمام خدعة كونيّة تجرى فصولها على الأرض الأفغانية ويشارك فيها من لا حظ لهم في المعرفة والتجربة والماضي النضالي، فكانوا مجرّد أدوات تديرها أجهزة الاستخبارات المركزية الأميركية والسعودية والباكستانية وكان المال السعودي والخليجي يغدق بسخاء على مشروع الحرب، بكل أدواتها: العسكرية، الفكرية، الاعلامية، السياسية، والاقتصادية... فصدّق كثيرون أن أفغانستان هي المعركة الفاصلة وليست فلسطين، التي توارت في وعي كثيرين وشارك فيها بعض الفلسطينيين. هل كان محض صدفة أن «رائد الجهاد الأفغاني»، ورمزها الأكبر فلسطيني الهوية، وهو عبد الله عزّام؟ وهل محض صدفة أن يكون كبار رموز ومنظّري تنظيم «القاعدة» هم من الفلسطينيين أمثال أبو محمد المقدسي (عصام البرقاوي) وأبو قتادة الفلسطيني (عمر محمود عثمان)، من الذين نظّروا إلى الجهاد في العالم؟ وبقيت فلسطين خارج نطاق اهتمام المجاهدين العرب في أفغانستان.
حين حقق الجهاد الأفغاني غاياته الأميركية، بانسحاب القوات السوفياتية من أفغانستان وتالياً تفكّك الاتحاد السوفياتي عام 1989، لم ينتقل المجاهدون العرب إلى أرض الرباط الحقيقية فلسطين، بل أوجدوا لأنفسهم أرض رباط أخرى، وتوزّع «أهل الثغور» الجدد على بلدانهم وبلدان لم يطأها من قبل لبدء سياحة الجهاد، ومنهم من وصل الى الشيشان وقرغيزستان، وتحوّلوا إلى أبطال.
ما يلفت أن فلسطين التي حضرت لأول مرة في خطاب القاعدة، على لسان زعيمها السابق أسامة بن لادن، حين تحدث في شريط مصوّر بثّته قناة «الجزيرة» في 7 أكتوبر 2001 وقال: «اقسم بالله العظيم أن أميركا لن تحلم بالأمن قبل أن تنعم فلسطين به»، لم تعقبه خطوات من أي نوع تفيد بتحوّل في وجهة «القاعدة» أو أي من تفريعاتها، بل على العكس، لحظنا بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق في نيسان 2003، أن فلسطين غابت بصورة كليّة، وحضر الخطاب الطائفي بشراسة غير مسبوقة، وصار الجدل يدور داخل قيادة ومنظرّي «القاعدة» ليس حول بوصلة الجهاد إن كانت نحو فلسطين أم نحو مكان آخر، وإنما حول جواز قتل المدنيين أم حرمته، بناء على نظرية «التترّس» بالعدو. وكان من رأي أبو مصعب الزرقاوي، القائد الميداني لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين (قتل في حزيران 2006)، أن لا فرق بين مدني وعسكري في العراق، وذلك من منطلق طائفي.
يكاد النظام الرسمي العربي أن يكون صادقاً في خصومته للقضية الفلسطينية
وكما كانت أفغانستان، تحوّلت العراق الى أرض رباط، انجذب اليها «المجاهدون» القدامى والجدد من تنظيم «القاعدة»، فيما تحمّل مشايخ الوهابية التمويل والتحريّض، وبقيت مطحنة الحرب تستنزف الأموال والرجال والعقول على مدى سنوات، وكل ذلك يجري على حساب القضية الفلسطينية التي باتت على هامش الاهتمام الشعبي والرسمي، ولم تعد ضمن أولويات «الجهاديين».
في حرب تموز 2006 على لبنان، بدأت أولى مفاعيل انحراف بوصلة النضال، ولم يكن العامل الطائفي وحده المسؤول المباشر عن صدور فتاوى وهابية تحرّم الدعاء للمقاومة اللبنانية المتمثلة في حزب الله بالنصر على العدوان الاسرائيلي، لأننا سوف نعثر على ما هو أقرب الى «العار» في العدوان الاسرائيلي على غزة في 2008 ـ 2009، حيث صدرت في كانون ثاني 2009 فتاوى من أعلى المراتب في المؤسسة الدينية الرسمية، وعلى وجه الخصوص المفتي العام للمملكة السعودية الشيخ عبد العزيز آل الشيخ ورئيس مجلس القضاء الاعلى الشيخ صالح اللحيدان بوصف التظاهرات الشعبية لمناصرة غزة في يوم الغضب بأنه «عمل غوغائي»، ويدخل بحسب اللحيدان في «باب الفساد في الأرض». للإشارة فحسب، فإن اللحيدان هو نفسه صاحب فتوى جواز قتل الثلث من أجل أن ينعم الثلثان، في تأييده القتال في سوريا لإسقاط النظام.
الأنكى أننا بتنا أمام حالة غير مسبوقة إذ ينبري كتّاب عرب، وفي الغالب من الدول التي خرج منها «الجهاديون» الى أفغانستان ثم العراق وسوريا، لنشر مقالات تدين المقاومة وتبرّر العدوان، الى حد أن وزارة الخارجية الاسرائيلية أعادت نشر المقالات على موقعها الالكتروني. الأدهى في العدوان الاسرائيلي على غزّة في تموّز 2014 أن قائمة «العار» كبرت واللهجة أصبحت أشدّ وضوحاً واستفزازاً ليس في الادانة والتبرير ولكن هذه المرّة في التحريض، بنبرة تشفي وحقد، على استمرار العدوان وزيادة وتيرته.
في مقلب «الجهاديين» من الأطياف المتعاقبة من الجهاد الافغاني ومروراً بالعراق وصولاً الى سوريا، بدا ما يشي بأكثر من صمت وأقرب الى التواطؤ، فأولئك الذين يظهرون الوحشية في تحقيق «البطولات» النادرة في تاريخ البشرية، والمستعدين لتفخيخ أجسادهم وتفجيرها في كل شيء ومن أجل أتفه الأشياء، وإشاعة الرعب في قلوب خصومهم، لم يرف لأي منهم جفن وهو يرى مشهد أشلاء أطفال غزّة تتطاير بفعل الصواريخ الإسرائيلية، ولا للوحشية الصهيونية التي لا تضاهيها سوى وحشية داعش في سفك الدماء، وهدم الأحياء على رؤوس ساكنيها، وتحويل الحياة الى جحيم لا يطاق.
غاب الداعشيون والقاعديون وكل تنظيمات السلفية الجهادية عن غزّة وفلسطين، وحرصوا على الحضور الكثيف في أماكن أخرى. حجة الأرض التي كانوا يلوذون بها في تبرير عدم «مجاهدة» العدو الاسرائيلي سقطت فقد باتوا مجاورين لفلسطين المحتلة بعد سيطرتهم على مناطق داخل سوريا، وحجة السلاح الذي يصل الى داخل فلسطين المحتلة أيضاً سقطت، فلدى كل من هذه التنظيمات ما يكفي من الصواريخ التي تضرب العمق الاسرائيلي وتهدّد وجوده... ولكن لم تفعل، لماذا؟ يختصر «داعش» موقفه بدهسه علم فلسطين، ويبرر ذلك بأنه لا يعترف بحدود سايكس بيكو، وبزعم فارغ أن معركته مع الاسرائيلي مؤجّلة الى حين تطهير الأمة من العدو القريب، بحسب تغريدات للقيادي في «داعش» الشيخ أبو القاسم الأصبحي في 8 تموز الماضي.
ترقّب كثيرون من المتعاطفين والخصوم وصول طلائع مقاتلي داعش الى غزّة لمناصرة أهلها في مواجهة العدوان الاسرائيلي، ولكن تلك الطلائع لم ولن تصل لأن لها مهمة تقوم بها في مكان آخر، وليست معنيّة بالجهاد في فلسطين.
يبرر «داعش» تقاعسه عن الجهاد في فلسطين بأن « القدس لن تتحرر حتى نتخلص من هؤلاء الأصنام...» في إشارة الى الشيعة، وأمراء الخليج، والتيارات الليبرالية والعلمانية باعتبار عناصرها من المرتدّين والمنافقين وأنهم أشد خطراً من الكافرين الأصليين، وأن الخليفة الأول أبا بكر «قدّم قتال المرتدين على فتح القدس التي فتحها بعده عمر بن الخطاب».
السؤال: لماذا لم يكن الجواب ذاته حاضراً حين بدأ النفير الى الجهاد في أفغانستان؟ وكان من الأمراء الشرعيين في داعش من انخرط في الجهاد الافغاني قبل أن ينتقل الى العراق ويلتحق بتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين تحت إمرة أبو مصعب الزرقاوي ثم في تنظيم «الدولة» تحت إمرة البغداديين، أبو عمر ومن ثم أبو بكر. لنتذكر أن في أجواء العدوان أيضاً يلتزم النظام الرسمي العربي الصمت، فيما يغمر كبار مسؤولي الكيان الاسرائيلي الساحة الاعلامية بتصريحات استفزازية، تتحدث عن غطاء عربي للعدوان على غزّة، وآخرها تصريح رئيس الكيان السابق شمعون بيريز في مؤتمر صحافي في بئر السبع في 31 تموز الماضي بأن هذه هي الحرب الأولى التي تشنها تل أبيب و«غالبية العرب معها»، مشيراً إلى أن «العالم العربي يمارس العزلة على المقاومة الفلسطينية». تصريح لم يكن وارداً قبل عشر سنوات ولكنّه اليوم بات حقيقة، بل إن الحديث عن تمويل سعودي إماراتي للعدوان على غزة بات مقبولاً وإمكانية حصوله واردة.
لم تحدث تلك التحوّلات دفعة واحدة، ولم يكن انحراف البوصلة الى مكان آخر غير فلسطين جاء بفعل تزايد الاختلال في موازين القوى بين الكيان الاسرائيلي والدول العربية، بل الصحيح والمؤلم أن ثمة إرادة عربية رسمية بـ«اقتلاع» فلسطين من وعي ووجدان ونضال هذه الأمة، ولذلك أريد تبديل الأولويات بعد ثورات الربيع العربي، وتوجيه «أهل الثغور» الافتراضيين الى العراق وسوريا ولبنان واليمن، وأن يكون العنصر الفلسطيني بارزاً في قوافل المهاجرين الى «أراضي الرباط» البديلة. صنّعت ثقافة «الجهاد» المستمدة من مصادرها السلفية الوهابية شخصية فصامية، لا تشعر بأدنى لائمة للذات على انخرطها في القتال في القلمون السوري أو الأنبار العراقي في وقت تسقط غزة من حسابات «الجهاديين».
باختصار، إننا نقترب من لحظة تاريخية حاسمة تسقط فيها الذرائع وتتجلى الحقيقة الساطعة، فقد نضبت آلة التبرير لدى النظام الرسمي العربي حتى يكاد أن يكون صادقاً في خصومته السافرة للقضية الفلسطينية، واليوم تتناثر ذرائع تنظيمات سلفية جهادية انخرطت في مشاريع الحروب الاقليمية بدءاً من أفغانستان ومروراً بالعراق وصولاً الى سوريا، وتبيّن أن أجندتها الجهادية مصمّمة لغير وجهة، فلا ذريعة الجبهة المجاورة لفلسطين قائمة، إذ كانت تردد في القيام والقعود أن حزب الله كان يحول دون السماح للمجاهدين بمقاتله العدو حيث يسيطر على الجنوب اللبناني، ولا ذريعة نوعية السلاح المتوفر يسمح بتوجيه ضربات موجعة مقبولة، إذ أصبح بحوزة «داعش» وغيره صواريخ بعيدة المدى، وكذلك ذريعة العدّة والعتاد... فكل الذرائع سقطت وبقيت غزّة تشهد على من مع فلسطين ومن ضدّها.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه