يخطئ من يظن أنّ استراتيجية أوباما التي صادق عليها الكونغرس الأميركي تحمل جديداً في مفاصل الاستراتيجية الأميركية.
د. حسن أحمد حسن
يخطئ من يظن أنّ استراتيجية أوباما التي صادق عليها الكونغرس الأميركي تحمل جديداً في مفاصل الاستراتيجية الأميركية، بل في طريقة التعامل مع التنظيمات الإرهابية التي يُراد الاستثمار بها، ويخطئ أكثر من يتوهّم أنّ الهدف من الاستراتيجية المعلن عنها هو القضاء على «داعش» أو تقليص قدرته على ارتكاب الجرائم والمجازر في هذه الدولة أو تلك، فواشنطن لم تكن معنية في يوم من الأيام بمكافحة الإرهاب، بل على العكس هي الأكثر مهنية والأغنى تجربة بتغذيته، لأنها استمرأت الاستثمار فيه وبه، ومن هنا يمكن القول إنّ العنوان الأبرز لاستراتيجية أوباما هو الحرب بـ»داعش» وليس الحرب على «داعش»، وكلّ ما يتمّ ضخّه إعلامياً لا يعدو أن يكون لوازم النصب والاحتيال وعدة الشغل التي لا تفارق المخرج الأميركي لضمان نجاح العمل بعد توزيعه على الممثلين والكومبارس وما بينهما من مطبّلين ومزمّرين لا يدرون أنهم يسيرون إلى حتفهم وهم يرقصون.
فالمحاكمة العقلية للاستراتيجية الجديدة تضع المرء أمام تناقضات لا يمكن فهمها من خارج قواعد عمل السينما الهوليودية، وما تتطلبه من إثارة لتقديم السوبر مان الأميركي القادر على اختراق الجدران، والقفز فوق الأساطيح، وسحق كلّ من يقف في وجهه وإنقاذ من ينتظر الإنقاذ عبر اللعب بالصورة وتقنيات المونتاج، في حين يكون البطل المزعوم يتنقل في ردهات فنادق فارهة، ولم يغادر السهرات الحمراء التي يحييها مع عدد من المغفلين من أصحاب الكروش والعروش المحسوبين ـ زوراً وبهتاناً ـ على العروبة والإسلام ممّن اعتادوا بلوغ النشوة وهم يستمعون إلى تأوّهات بائعات الهوى والأجساد النتنة، حيث يتمّ تقديم قذاراتهم على أنها فتوحات ومراجل غير مسبوقة في التاريخ، وهذا ما يشبع غرائز أمراء النفط والغاز والخيانة، فَيُخًيًّلُ لهم أنهم بتمرّغهم بين أحضان البغاء يثبتون رجولتهم التي لم تكن يوماً موجودة لدى أيّ منهم، وشتان شتان بين الرجولة والفحولة، وهيهات هيهات لمن يعاني العنة ويقتنع بأنه فحل أن يعرف شيئاً عن الرجولة وقيمها ومعانيها ودلالاتها، لأنه تخلّى مسبقاً عن كلّ ما له علاقة بالكرامة والإباء والشمم والسيادة التي إما أن تكون كاملة، وإما أن تكون منتهكة… وانتهاك الكرامة لا يقبل الترميم.
كثيرةٌ هي التناقضات والمتناقضات التي تنطوي عليها الرواية الأميركية، فكيف يمكن الجمع بين محاربة الإرهاب وبين الإعلان الرسمي عن دعمه بمئات ملايين الدولارات؟ وكيف تستقيم محاربة الإرهاب مع تدريب الآلاف الجدد على القتل ونشر الرعب والدمار بعد تأهيلهم في معسكرات خاصة تحتضنها مملكة الإرهاب الوهابي؟ وقبل هذا وذاك لماذا لم تتحرك النخوة والمروءة لدى أوباما وزبانيته على امتداد أكثر من ثلاث سنوات ونصف من القتل وتقطيع الأوصال وثقافة الذبح ونسف البنى التحتية بالمتفجرات والسيارات المفخخة؟ وما سرّ إصرار واشنطن على مصادرة إرادة مجلس الأمن مراراً ومنعه من إصدار بيان صحافي يدين ذلك الإرهاب الموصوف؟ وهنا لا بدّ من التذكير بأنّ من قتل الرهينتين الأميركيين والثالث البريطاني ليس «داعش» بشكل مباشر، لأنّ جميع منطلقات التحليل السياسي والعسكري والاستراتيجي تؤكد أنّ ما فعله «داعش» ليس أكثر من تنفيذ أوامر عمليات صدرت عن إدارة أوباما وحكومة كاميرون لتمكينهما من الاستمرار في التضليل الاستراتيجي، ليس لشعوب المنطقة، وإنما للشعبين البريطاني والأميركي، واستنهاض الجميع لمواجهة ما أسموه خطر «داعش»، وبالتالي كان إعدام الرهائن ضرورة لشحن الشارع الأميركي والأوروبي ودفع الرأي العام هناك لتبنّي وجهة النظر المعتمدة بشكل مسبق، بما يضمن الاستمرار بسياسة الغطرسة وقهر إرادات الشعوب بذريعة مكافحة الإرهاب، مع الإشارة إلى أنّ تقاطر المئات والألوف من حملة الجنسيات الأميركية والأطلسية والخليجية وتوجّههم إلى القتال في سورية لا يمكن أن يتمّ بمعزل عن تورّط أجهزة الاستخبارات في تلك الدول بشكل مباشر في هذه الجريمة المنظمة، والتي حيكت خيوطها بمنتهى الخبث والدهاء، ومع ذلك عجزت عن تحقيق أهدافها مما اضطر مفاصل القرار في تلك الدول إلى تسويق إعدام الرهائن ليشكل الرافعة المطلوبة للموافقة على كلّ ما يطلبه أصحاب الرؤوس الحامية في الدول الراعية رسمياً للإرهاب والإرهابيين.
استناداً إلى ما تقدم وبعيداً عن الغوص في تفاصيل تحتاج كلّ منها إلى تحليل مستقلّ، أليس من حق المتابع العادي أن يتساءل كيف لأوباما واستراتيجيته أن تستهدف القضاء على الإرهاب وهو القائل: إنّ المطلوب إضعاف «داعش» وليس القضاء عليه؟ وكيف للضربات الجوية أن تضعف تنظيماً إرهابياً هزم الجيش الأميركي في أفغانستان؟ وكيف تتحوّل ما أسماه معارضة معتدلة من وهم وفانتازيا إلى قدرات خارقة تستطيع مواجهة «داعش» والجيش العربي السوري في آن معاً؟ وماذا يعني أن يحدّد أوباما الفترة الزمنية المطلوبة بما لا يقلّ عن ثلاث سنوات؟ وما الضامن ألا يأتي رئيس أميركي جديد بعد ثلاث سنوات، ويقول إنّ قرار إدارة أوباما كان خاطئاً، وقد تسبّب بنشر الخراب والدمار وتصدير الكثير من المآسي والآلام لشعوب المنطقة التي من حقها أن تعيش بسلام، وأن تعيد بناء ما هدمه الإرهاب فيها، وكلّ ذلك كمقدمة للاستمرار في مصّ دماء الشعوب والعودة القوية إلى المنطقة من باب إعادة الإعمار؟
بطبيعة الحال الإجابة على التساؤلات السابقة تقود إلى استنتاج رئيس يتلخص في أنّ الغرب الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية لا يريد الخروج من المنطقة، ولا هو بصدد السماح لشعوبها بالتعبير عن إرادتها، بل يريد نفخ الجمر الكامن تحت الرماد لإشعال حرائق جديدة بذريعة مكافحة الإرهاب، وقد أثبتت الأحداث أنّ المايسترو الأميركي لا يحيد عن بوصلة خدمة مصالح الكيان الصهيوني موئل الإرهاب المتناقض نشأة واستمرارية مع كلّ ما له علاقة بالقانون الدولي وقيم المجتمع الإنساني، وواهمٌ من يحسب للحظة واحدة أنّ واشنطن جادة في مكافحة الإرهاب لأنها وكلّ من يدور في فلكها المأفون صنّاع الإرهاب ورعاته وبناته وحماته، وإذا حدث أن قامت هذه الإدارة الأميركية أو تلك بمواجهة الإرهاب علانية فالأمر لا يتعدّى ضبط إيقاع المجموعات الإرهابية التي قد تشق عصا الطاعة بعد تأمين التمويل ذاتياً أو بطرق التفافية، أي أنّ الغاية ضبط إيقاع الإرهاب وليس القضاء عليه ليبقى قادة المجموعات الإرهابية تحت السيطرة وبما ينسجم والخطط التي تعتمدها مفاصل صنع القرار الأميركي، وهنا لا بدّ من التمييز بين زعماء عصابات القتل الإرهابية وبين الجسد الإرهابي المسلح الذي يسمّونه «الحطب أو الوقود» من الهمج الرعاع الذين يتمّ تجنيدهم وتجميعهم من كلّ أنحاء المعمورة، وحياتهم لا تعني شيئاً لا لقادتهم الميدانيين ولا لسيد قادتهم الصهيو ـ أميركي، وهذه الجولة الجديدة من الحرب المفتوحة تحمل من الأخطار والتحديات ما يفوق كلّ ما سبقه، لأنّ الفرق كبير بين القدرة على إشعال الحرائق المتنقلة وبين التحكم المضمون بألسنة اللهب واتجاهاتها، فلا قدرة لدى أحد ـ بما في ذلك واشنطن ـ على ضمان النتائج إذا خرجت الأمور عن السيطرة.
وقد يقول بعض المتابعين والمهتمّين بالشأن السياسي: هذه الحرب من أنجح الحروب الأميركية التي أشرفت واشنطن على هندستها وتدحرجها في الزمان والمكان، فهي لم تكلّف المايسترو الأميركي رصاصة واحدة ولا قطرة دم، واستطاع عبرها أن يعود إلى الفاعلية والقدرة البالغة على توجيه الأحداث إقليمياً ودولياً، ولا ضرورة للتدخل الأميركي المباشر طالما أنّ الأهداف تتحقق من دون أية تكلفة، وقد يكون هذا الكلام صحيحاً لولا اللوحة الجديدة التي رسمها صمود الدولة السورية ومن يدعمها في دفاعها المشروع عن مقوّمات سيادتها، وهذا ما حصر المكاسب الأميركية والصهيونية بالإطارين التكتيكي والعملياتي الحاملين في طياتهما إمكانية الإخفاق المدوّي على المستوى الاستراتيجي، فتقييم الحروب الشاملة يكون بخواتيمها ومضامينها العامة لا بمحطاتها المتعددة التي لم تغيّر ولن تستطيع أن تغيّر من الاصطفافات الجيوبولتيكية الجديدة التي أفرزها صمود سورية المدعوم من محور المقاومة وبعض الأصدقاء الفاعلين على الساحة الدولية في مواجهة هذه الحرب المفتوحة، والعنوان الأبرز لهذه الاصطفافات الجديدة هو أفول الأحادية القطبية وإلى غير رجعة وتهيئة البيئة الاستراتيجية المطلوبة إقليمياً ودولياً للانتقال بالعلاقات الدولية إلى عالم متعدّد الأقطاب، ولا يستبعد أن يكون بعض صقور اليمين الجديد المتصهين قد زيّنوا لأوباما سوء صنيعه، وأغروه بإمكانية دخول التاريخ من بوابات واسعة قد تُغْلَق ما لم يستغلّ إرهاب «داعش» وينتهك سيادة الدولة السورية كمقدمة لانتهاك سيادة دول أخرى مستهزئين بالتداعيات التي قد يخلّفها هذا الإرهاب الجديد من حرائق وتبدّلات عاصفة قد تحرق ما تبقّى لدى واشنطن من أوراق صالحة للاستخدام.
وقد يقول قائل: ما الذي يضير أميركا لو أنّ عدوى التفتيت امتدّت وشملت السعودية وبقية دول الخليج طالما أنّ واشنطن تمسك بكلّ زمام الأمر وتقبض على أعناق كلّ أفراد الأسر الحاكمة، فأيّ تبدل في الوجوه أو تعدّد في الكيانات لا يؤثر على المصالح الأميركية، بل سيتسابق الجيل الجديد من حكام الكيانات التي تنشأ للانبطاح أكثر تحت أقدام الأميركي، وقد يكون هذا الكلام دقيقاً، لكن كلّ مهتم بالشأن السياسي يدرك أنّ المسألة الجوهرية التي تجمع عليها الإدارات الأميركية المتعاقبة هي أمن الكيان الصهيوني، ولا أظن عاقلاً يتوقع أن تقف سورية وبقية أقطاب المقاومة يتفرّجون على انتهاك سيادة دولهم بذريعة مكافحة الإرهاب، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى ثمة سيناريو قد يبدو بعيداً عن التفكير، فماذا لو أنّ الإدارة الأميركية وصلت إلى قناعة بأنّ الكيان الصهيوني أصبح عبئاً ثقيلاً يجب التخلص منه بشكل غير مباشر، وبأقلّ التكاليف؟ ألا يعني ذلك مزيداً من العربدة الأميركية لإحراق المنطقة برمّتها وإعادة ترتيب الأوراق من جديد بعد خمود ألسنة اللهب الكفيلة بإنزال الأحمال الثقيلة عن الكاهل الأميركي، ولا أحسب من استطاعوا تقويض روافع المشروع التفتيتي قد أسقطوا أياً من السيناريوهات من حساباتهم الاستراتيجية.
http://al-binaa.com/albinaa/?article=16048
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه