لكن النقد شيء، والتشهير وترويج الكليشيهات الخاطئة شيء آخر، مع ما يترافق ذلك لدى القاسم من بث سموم ومعلومات مضللة هي خطأ مهني، قبل أن تكون جنحة أخلاقيّة. لم يراع القاسم في «دعاباته»، الحد الأدنى من اللياقات
لطالما كان موضوع الجيش حسّاساً بالنسبة إلى اللبنانيّين. لكن الاساءة إليه، أو التعرّض له هذه الأيّام بالذات، يعتبران مساً بالوجدان الجماعي والكرامة الوطنيّة. فكيف بالأحرى حين تكون السخرية الرخيصة والسطحيّة والمضلّلة صادرة عن «داعية تلفزيوني» محسوب على الخطاب الرسمي لدويلة لعبت دوراً فاعلاً في انتاج التكفيريين والقتلة والبرابرة الجدد، أيّاً كانت تسمياتهم الرسميّة؟.
نتحدّث طبعاً عن «سخرية» فيصل القاسم الفايسبوكيّة أوّل من أمس من الجيش اللبناني الذي لم ينجز ـــ برأي الأستاذ عبقر ـــ سوى فيديو كليبات إضافة إلى «ذبح أهالي عرسال». لقد كانت لهذا «البوست» المسموم تفاعلات هائلة على مواقع التواصل الاجتماعي أوّلاً، قبل أن تأخذ حجماً مقلقاً على الأرض، تجسّد في محاولة اقتحام مكاتب محطّة «الجزيرة».
نفهم الغضب الشعبي العارم. فالجيش اللبناني مجروح في الصميم على كل الصعد. مجروح بشهدائه المغدور بهم، بجبن ونذالة أين منهما بسالة المقاتلين الشرفاء. الجيش مجروح، ومعه المزاج الشعبي، لأنّه مكبّل بقرار سياسي جبان ومتواطئ، يتاجر بالكرامة الوطنيّة ويساوم عليها.
ولأنّه يجد نفسه الآن، بين الوصايات و«الهبات» والضغوطات المختلفة، عاجزاً عن القيام بدوره الطبيعي الذي ينصّ عليه الدستور، في تطهير الأراضي اللبنانيّة من الارهابيين، ودرء خطر الجراد الأسود عن سمائه. يضاف إلى كل ذلك المناخ السياسي المحقون الناتج عن حملات الدس والتحريض التي برع فيها، خلال الأسابيع الأخيرة، نوّاب الفتنة وشيوخها، وهم ينهلون غالباً من المجرور نفسه الذي يورد منه حكم مباريات البوكس الأعور فيصل القاسم. تفادياً لأي التباس، أو انتقاص من حريّة الصحافة وحريّة التعبير، نحن ندافع عن حق الاعلام في نقد المؤسسة العسكريّة، حين تفترض الديمقراطيّة ذلك، فهو واجب ولو في أحلك الظروف.
لكن النقد شيء، والتشهير وترويج الكليشيهات الخاطئة شيء آخر، مع ما يترافق ذلك لدى القاسم من بث سموم ومعلومات مضللة هي خطأ مهني، قبل أن تكون جنحة أخلاقيّة. لم يراع القاسم في «دعاباته»، الحد الأدنى من اللياقات، أي احترام دماء الشهداء التي تلطّخ ضمائرنا ووعينا الشقي.
دعابات فيصل القاسم؟ كيف يمكن أصلاً للقرد السمج، أن يكون طريفاً أو لئيماً أساساً؟ انظروا إلى ربطات عنقه! منذ اليوم الأوّل لاطلالته على «الجزيرة» ذات زمن سحيق لم يفعل سوى النعيق. اعتمد طوال مسيرته على التهويل والتضليل والاستفزاز الرخيص، ظنّاً منه ومن كثيرين للأسف، أنّها النقد والجدل وحريّة الاعلام.
هذا الكركوز القطري الذي لا يعرف سوى التحريض، يشكّل اداؤه شتيمة للديمقراطيّة، وقواعد النقاش، وحق الاختلاف. لقد مسخ كلّ شيء، بدءاً بشعار الحريّة، فأغرق مشاهديه دهراً في مستنقعات الغوغائيّة والديماغوجيّة والشعبويّة والفوضى والتفريغ السياسي السطحي. واليوم ينبغي التعامل معه على هذا الأساس. فهو ليس أكثر من كركوز تمكن مقاضاته، تعريته، مجادلته، البصق بوجهه (بالمعنى الرمزي طبعاً)… أما الاعتداء على مكاتب «الجزيرة» في بيروت، فغير مقبول اطلاقاً لأنّه يحوّل المشعوذ الطفيلي إلى ضحيّة طبعاً. لكنّ الأهم من ذلك أنّه يشكّل اساءة إلى حريّة الاعلام وكل الاعلاميين، وليس فقط العاملين في المحطّة القطريّة.
الكلام نفسه ينطبق على الرقابة غير المباشرة التي لوّح بها بعض موزّعي الدش في لبنان (قطع بث «الجزيرة»). لا يجوز «الاقتصاص» من الاعلام أيّاً كان. إذا درجت موضة الاعتداء على كل مؤسسة اعلاميّة لا يعجبنا فيها تقرير أو رأي أو مقالة (أو موقف لأحد العاملين فيها عبّر عنه خارج اطارها)، فمعنى ذلك أن الغوغائيّة التي أسس لها فيصل القاسم وأمثاله كل هذه السنوات انتصرت في النهاية، وأن غربان الربيع القطري هم الذين يرسمون لنا سماء «الديمقراطيّة» الجديدة.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه