طاب لا يكلّف نفسه عناء الانتقال إلى خيم النازحين للتعرّف إلى واقعهم اليومي، خطاب يتّكل على صحافة «المصادر» والسياسيين وأصحاب المنابر، وهؤلاء يروِّجون صورة عن النازحين تتناسب مع توجهاتهم السياسية
«هل تؤيّد عدم بيع السوريين من محالنا التجارية للتضييق عليهم؟ أيها اللبنانيون من يحمي حقكم في الوظيفة؟ وماذا تقولون عن المزاحمة غير المشروعة؟ بعد الأمن، كيف يؤثر اللجوء السوري على الاقتصاد اللبناني؟ ماذا تفعل وزارة العمل؟ ما هو دور الهيئات الاقتصادية؟ والنازحون يأكلون واللبنانيون يجوعون».
هذه حفنة من أسئلة ترويجيّة وعناوين إعلامية حفلت بها صفحات ومواقع مؤسسات إعلاميّة («المؤسسة اللبنانية للإرسال»، و«أم تي في»، وموقع «النشرة» الإلكتروني)، ويمكن أن نقع على مثيلاتها يومياً في عدد كبير من المؤسسات الإعلامية اللبنانية.
بعضها يميل إلى تصوير واقع يمكن تلمّسه في علاقة السوريين باللبنانيين، وبعضها ينظر للنزوح السوري باعتباره يشكّل الخطر الأكبر أمنياً واقتصادياً على اللبنانيين.
لا تكمن القضيّة فقط في الموقف «السياسي» من النازح السوري، أو في الموقف «العنصري» منه. ففي المقابل تبنى بعض الناشطين المدافعين عن النازحين عبارات وأفكارا معادية للبنانيين، وأساءوا بذلك لموقع السوريين حيث جعلوهم أداة لشتم اللبنانيين، من دون إرادة النازحين ومن دون علمهم بالأمر. المشكلة تكمن في أنّ الإعلام اللبناني يطرح أسئلة خاطئة. ينطلق من نقاش سياسي عام، هو في الأصل نقاش الانقسام اللبناني نفسه بعناوينه المتبدلة، ويطرحها باعتبارها انعكاساً للواقع وتلخيصاً للأزمة.
فإذا ما عدنا إلى سؤال عدم بيع السوريين من محالنا في برنامج «حكي جالس»، وبالرغم من حسن نيّة المقدّم وفريق البرنامج كما ظهر خلال حلقة أمس الأوّل، إلا أنّه يستعير من دون قصد بالتأكيد من معين قضية العرب الأولى، أي قضية مقاطعة الإسرائيليين. فالمقاطعة في الذهنيّة العربيّة تعني مقاطعة «إسرائيل» وشعبها وبضائعها، وهذه الاستعارة اللاواعية تسيئ إلى صورة البرنامج الذي يحمل لواء الدفاع عن الناس ومحاربة الفساد. الوعي السياسي العالي جداً، لا بدّ أن يكون من أهم شروط هذا البرنامج الذي يحاول مواجهة مافيات الفساد في لبنان.
أما بالنسبة للأسئلة التي يعدنا برنامج «بموضوعية» بمعالجتها مساء اليوم، فتنتمي أيضاً لثقافة الاستهلاك السياسي اللبناني، حيث العامل السوري يزاحم اللبناني ويأخذ منه لقمة عيشه. والملفت أنَّ ضيفي الحلقة هما وزير العمل سجعان قزي، ورئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس، المعروفين بعدائهما للطبقات الفقيرة، وانحيازهما المفرط لأرباب العمل.
لم يعدنا وليد عبود بحلقة تناقش مسؤولية أرباب العمل في طرد موظّفين لاستبدالهم بآخرين (سوريين أو لبنانيين)، يرضون برواتب أقلّ. لم يعدنا بالسؤال عن أسباب انكفاء اللبنانيين عن العمل في قطاعات معينّة، وما هي بالتحديد مسؤولية الهيئات الاقتصادية وأرباب العمل الكبار في ذلك.
لم تطرح الأسئلة الترويجيّة للحلقة أيّ سؤال عن واقع العمالة السورية، وعن المسؤول عن قضية «المزاحمة» هذه، وعن حجم هذه المزاحمة. وفي المقابل لم يعدنا بسؤال عن حجم فرص العمل والوظائف التي يتولاها لبنانيّون بسبب تدفق النازحين السوريين، ولا عن فرص العمل الأخرى التي ولدت نتيجة هذا النزوح القسري. ولم يعدنا بالسؤال عن الأموال التي كدّسها فاسدون بعضهم برتب ووظائف مهمة، نتيجة سرقة كميات من المساعدات المخصّصة للنازحين.
أما بالنسبة لقضية إطعام النازحين وتجويع اللبنانيين التي تبناها عنوان تحقيق في موقع «النشرة»، ففيه تغاض عن أن نسبة كبيرة من النازحين تأكل الأعشاب في كثير من الأحيان، وتنام في خيم لا تردّ المطر.
ما ورد أعلاه، جزء من خطاب إعلامي لبناني، يتكرّر في مختلف وسائل الإعلام، كما ذكرنا. خطاب يتعاطى مع قضيّة النزوح السوري وما نتج عنها من مشاكل، من زاوية شيطنة النازح أو شيطنة اللبناني الذي يخاف من تبعات استمرار الأزمة السورية. خطاب لا يكلّف نفسه عناء الانتقال إلى خيم النازحين للتعرّف إلى واقعهم اليومي، خطاب يتّكل على صحافة «المصادر» والسياسيين وأصحاب المنابر، وهؤلاء يروِّجون صورة عن النازحين تتناسب مع توجهاتهم السياسية (أكانوا من 8 أو 14 آذار).
خطاب يحمّل النازح الفقير وحده عبء الفقر اللبناني، وعبء احتضان الإسلاميين المتطرفين، من دون أن يتحقّق من الدور الذي تلعبه جمعيات لبنانيّة وسياسيون لبنانيون، في الاستفادة غير المشروعة من الأموال المخصّصة للنازحين من جهة، وفي تغطية وجود متطرفين (من «داعش و«النصرة» وغيرهما) للاستفادة منهم في المعارك السياسية اللبنانية الصغيرة ثم التبري منهم حين تدعو الحاجة، من جهة أخرى.
لا يمكن لعاقل أن ينكر أن ثمّة مشاكل كبيرة يعاني منها اللبناني، وأنّها تفاقمت مع تدفّق أعداد كبيرة من النازحين السوريين، وأنَّ فرص العمل في بعض القطاعات الخدماتية تقلصت أمام اللبنانيين لصالح السوري أو اللبناني الذي يقبل براتب متدنٍّ جداً، وأن ثمة عددا (غير معروف) ممَّن يعتبرون أنفسهم جهاديين بين النازحين (كما أن بين اللبنانيين عددا من المتطرفين الذين يجاهرون برفع أعلام «داعش»)... ولكنَّ ذلك كلّه لا يُعالج بأسئلة عامة من النوع الذي يروِّج له السياسيون المتناحرون في لبنان، وإنَّما من خلال أسئلة تلامس الواقع وتذهب أبعد من القوالب الجاهزة.
هذه الأسئلة ضروريّة، ليس فقط دفاعاً عن النازحين السوريين، وإنما هي حاجة ماسة من أجل ترسيخ حق المواطن اللبناني بإعلام «ذكي» وعالي المهنية، أي حقه باستعادة الوجه الحقيقي للإعلام اللبناني.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه