تذكر الحاجة أم محمد جيداً الحرب العالمية الأولى وكيف كاد الناس يموتون من الجوع، كنا نجمع الحشائش ونأكلها من دون ملح حتى، لأنه لم يكن متوافراً.
لم تخفف الأعوام الطوال من همّة ونشاط المعمرة فطوم الحصني، فهي لا تزال تمارس حياتها الطبيعية، وتترقب كل ما يجري من حولها، وتتابع الأوضاع السياسية في لبنان والمنطقة.
نجلة حمود/ جريدة السفير
«لم يؤلمني شيء في حياتي مثلما آلمني أسر العسكريين وذبح بعضهم، إن ما يجري لا يجوز، وأنا لم أسمع مثل هذه الحادثة طوال حياتي، على ما يبدو ما نشهده هو نهاية البشرية، وألله ينجينا». هي بعض الكلمات التي ترددها أم محمد عند استقبالها لأي زائر، فأول شيء تسأل عنه هو مصير العسكريين وأذا ما تم الإفراج عنهم.
تضحك الحاجة أم محمد عند سؤالها عن عمرها. وتقول: «على الهوية أنا من مواليد العام 1926 أما في الواقع فأنا أكبر بكثير، لأن والدي لم يسجلني في النفوس إلا عندما أردت أن أتزوج وأنا تزوجت عندما كان عمري 22 عاما. كل منطقة سهل عكار تعرف الحاجة أم محمد، إذ أنها «أكبر معمرة في عكار وعمرها يتجاوز الـ130 عاما»، بحسب فاعليات المنطقة الذين يؤكدون رويات أهلهم «بأن فطوم الحصني كانت كبيرة عندما تزوجت، لأنها كانت المعيلة الوحيدة لعائلتها».
تقول فطوم: كنت كبيرة آنذاك وأبو محمد كان أصغر مني سناً، لم يبق لي أحد في الحياة سوى أبنائي. إذ توفي أهلي وإخوتي منذ زمن. أما زوجي فتوفي منذ 30 عاماً وبقيت أنا بمفردي.
قصص كثيرة ترويها الحاجة فطوم عن أيام الطفولة، التي «لا نذكر منها سوى الحروب والظلم، كنت أكبر اخوتي وسند العائلة وكنت أخت الرجال، كان والدي يتمنى لو أنني ولدت ذكراً لذلك كنت أعمل بجد، ولم أجعله يشعر أنني قاصرة»، تقول أم محمد.
وتضيف: «كنت أعمل تماماً كالرجال، نقلت الأحجار وأنا طفلة مثلي مثل الرجال أيام الاستعمار العثماني عندما قاموا ببناء جسر الدبوسي (الواقع على الحدود السورية) وعندما أراد «الوقيف» (مراقب العمال) أن يدفع لي أجرتي رفضت، وقلت له أنا بنية (فتاة) ولا أستلم أموالا سوف أنادي والدي لكي تدفع له، وبالفعل حضر والدي وأعطاه «الوقيف» ليرات من الذهب، كنت حينها صغيرة. وكان يمر علينا ركاب القطار الذي كان يربط عكار بسوريا وتركيا. وكنا نشاهد النساء التركيات اللواتي زرن مناطقنا».
وتتابع: «كان والدي يحبني كثيراً ويتكل علي في كل شيء، وأنا لم أكن أهاب الموت ولا أخاف الليل، فكنت أجمع الحليب واللبن من البلدة وأنقلها ليلا الى منطقة التبانة عند نهر أبو علي في طرابلس، لم يكن هناك أبنية كانت المنازل قليلة، وكنت أرتدي زي الرجال فألبس الشروال وأضع الكوفية كي لا يعترضني أحد على الطريق، وآخد الطنبر وأسير، وعندما كانت تمر إحدى دوريات الفرنسيين كنت أخاطبهم بصوت الرجال. كانوا يفتشون حمولتي ومن ثم يسمحون لي بالمغادرة. مرات عديدة كنت أفاجأ بطوفان نهر أبو علي فأخاف من المياه وغضب الطبيعة، أفرغ حمولتي للتجار قبل أن أعود مع بزوغ الفجر».
تذكر الحاجة أم محمد جيداً الحرب العالمية الأولى وكيف كاد الناس يموتون من الجوع، كنا نجمع الحشائش ونأكلها من دون ملح حتى، لأنه لم يكن متوافراً.
أما ظلم جمال باشا فكان لا يحتمل، كان سفاحاً يجلد الشباب حتى الموت ويرسل الرجال الى الحرب، غادر والد حسن الى الحرب قبل أن تلد زوجته وطلب منها إذا أنجبت صبياً في غيابه أن تسميه حسن، وبالفعل ولد حسن يتيماً من دون والد. وعندما أصبح شاباً تزوجنا وكنا نحب بعضنا بعضا كثيراً ولكنه تركني باكراً ورحل. أشتاق اليه كثيراً وأطلب له الرحمة وأدعو له كل يوم في صلواتي».
لا تشكو أم محمد من أي شيء، ولا تتناول الأدوية ولديها بنية قوية بحسب ما يؤكد ابنها أحمد الذي يهتم بها مع زوجته وأبنائه.«لم تكن والدتي تشكو من شيء وكانت تزرع الأرض وتهتم بها الى أن أصيبت بجلطة أدت الى شللها نصفياً، ولكن بسبب بنيتها القوية وعزيمتها التي لا تقهر تعافت خلال سنة اثر مثابرتها على العلاج، وعادت لتمشي كالمعتاد الى أن وقعت منذ ثلاث سنوات أثناء زيارتها إحدى جاراتها فكسر وركها، ولم تتمكن من إجراء عملية جراحية بسبب تخوف الأطباء من تقدم عمــرها، وهـي لغاية اليوم تأمل أن تسير مجدداً».