الثابت هو أن الازمة السورية دخلت في مراحلها الأخيرة، مرحلة كشف جميع الأوراق قبل التفاوض، بعدما أيقن الجميع بإستثناء تركيا أن أي حلول في المنطقة، سوف تأخذ بعين الإعتبار مصالح دمشق بالدرجة الأولى.
احمد فرحات
أن تأتي متأخراً، خير من أن لا تأتي أبداً ... مقولة تختصر الواقع التركي، بعد أكثر من اسبوعين على بدء هجمات التحالف العربي - الدولي ضد داعش في سوريا ... في سابقة خطيرة، لم تجرؤ أنقرة على فعلها ابان غزو العراق عام 2003، ألا وهي الدخول في تحالف دولي يستهدف أراضي دولة عربية جارة.
وحددت تركيا شروطها في التدخل، بإسقاط النظام السوري بالتوازي مع ضرب داعش، فهي لا تريد حلولا مؤقتة، بحسب ما صرح رئيس الدولة رجب طيب اردوغان .. وثمن دخولها في الميدان، تلخصها 3 محددات، تحدث عنها رئيس الحكومة أحمد داوود اوغلو في رسالته إلى الشعب قبل أيام، والتي حملت عنوان "على مسار تركيا الجديدة".
أولى تلك المحددات هي المصالح القومية للدولة التركية، وثانيها الإهتمام بالوافدين من الأصدقاء، وثالثها الإستقرار الإقليمي.
المصالح القومية للدولة التركية، تتعلق بمسلمة دأب عليها ورثة السلطنة العثمانية، بإقصاء الأكراد عن الحكم، ومحاربة حزب العمال الكردستاني في الداخل والخارج، فيما بات تنظيم القاعدة ومتفرعاته مرحباً به في تركيا، في عهد حزب العدالة والتنمية.
قاعدة أخرى شددت عليها القيادة التركية، وهي "الاهتمام بكل أصدقائنا الوافدين من دول الجوار دون أي تمييز على أساس مذهب أو عرق أو دين"، وفق تعبير داوود أوغلو، أي التأكيد على مرجعيتها لجماعة الإخوان المسلمين في المنطقة، والهدف تكريس زعامتها لجزء من العالم الإسلامي، قد تستخدمها في مرحلة لاحقة في تقاسم النفوذ مع المملكة العربية السعودية.
أما الاستقرار الإقليمي من المنظور التركي، فلا يتحقق إلا من خلال إسقاط الدولة السورية وليس فقط ضرب داعش، ويكون ذلك بالتعاون مع الغرب وفق "استراتيجية متكاملة من أجل التوصل لحل نهائي، لأن أنصاف الحلول تؤدي حتماً إلى مشاكل أكبر"، بحسب داوود اوغلو أيضاً.
ومن الملاحظ أن "مسار تركيا الجديدة"، لا يعدو عن كونه تأكيدا للرهانات السابقة، والتي منيت بإخفاقات على أكثر من صعيد، فيما ترغب الحكومة التركية في ولايتها الجديدة، تحصيل بعض المكاسب، من خلال ركوب موجة ضرب داعش، علها تضيف بعض الحسنات في ميزان أعمالها، تعوض سيئات الأعوام المنصرمة الاستراتيجية.
وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف - المكاسب، فإن الحكومة التركية مستعدة لإعطاء الولايات المتحدة أكثر مما تطلبه، من خلال وضع جميع القواعد العسكرية الموجودة في البلاد بتصرف التحالف، إضافة إلى استعداد الجيش التركي للقيام بعمليات خارج أراضيه.
ما الذي غير الموقف
في اجتماع جدة، لم يوقع وزير خارجية تركيا مولود جاويش أوغلو على البيان الختامي، وتحفظ على المشاركة في أي حملة عسكرية ضد داعش في سوريا والعراق، وأعلنت الحكومة بعد زيارة وزير الخارجية الأميركية جون كيري مطلع الشهر الماضي أنقرة، أن مهمتها في التحالف تقتصر على تقاسم "المعلومات الاستخباراتية ومساعدة المعارضة السورية على الصعيد اللوجستي والانساني لهذا الغرض". ما الذي حصل.
في الحقيقة أن الموقف التركي لم يتغير من الأحداث السورية، فأنقرة ومنذ بداية الأحداث، جاهرت بموقفها الداعي إلى "إسقاط النظام" بأي ثمن، وعمدت إلى تسهيل دخول المسلحين إلى الداخل السوري، ودعمت الجماعات المسلحة بالسلاح والمال والعتاد، وتعاملت مع الأزمة على أنها معركتها الشخصية. ولم تخف نيتها التدخل برياً وإقامة منطقة عازلة وحظر جوي، وهذه أمور نادى بها القادة الأتراك طويلاً، وحملوها إلى جميع المؤتمرات الدولية التي عنت بالأزمة السورية.
وما حصل أن تركيا وجدت في التحالف الدولي ضد داعش الوسيلة الفضلى لتحقيق ما كانت تصبو إليه، فقررت التشدد في مطالبها، بعدما لمست حاجة واشنطن إلى دعمها في هذه المعركة، نتيجة خشية الديمقراطيين في الكونغرس الأميركي من التورط في مأزق عسكري جديد، قد يستخدم ضدهم في الحملة الإنتخابية التي بدأ التحضير لها في الولايات المتحدة.
المأزق ليس في عدد القتلى الأميركيين هذه المرة، بل في النتائج السياسية لهذه الحرب، ومنع الحكومة السورية من الإستفادة من تراجع داعش والجماعات التابعة لتنظيم القاعدة مثل جبهة النصرة، كون عدم حصول أي تغيير سياسي يضر بمبدأ الحرب - فجميع الحروب كانت أولاً وأخيراً لتحقيق هدف سياسي ما-، فيما الإدارة الأميركية لم تكن واضحة في مطلب تشكيل نظام جديد في سوريا، على الرغم من التغيير الحكومي في العراق.
ومن هنا كانت الحرب على داعش من دون أفق سياسي محدد وواضح لدى واشنطن، وهذا ما لا تريده انقرة، التي تحاول جدولة أهداف هذه الحرب، من خلال فرض شروط تدمير الدولة السورية، وإقامة منطقة عازلة، كنتائج تلقائية للتحالف ضد داعش.
وبحال تدخل الجيش التركي فعلياً في الأحداث السورية، فسيكون قد وضع نفسه أمام أكثر من أحتمال ليس أوله عداء داعش، الذي حاصر مرقد سليمان شاه، جد مؤسس الدولة العثمانية بريف حلب، واعتقل 30 عنصراً من الكتيبة الخاصة بحراسة الضريح، وبات على مقربة من الحدود التركية، في مدينة عين العرب.
وماذا سيكون موقف احزاب المعارضة التركية من هذا الأمر، خصوصاً وأنها رفضت سياسة "العدالة والتنمية" في الشأن السوري، وللتذكير فإن أكثر من 47% من الناخبين الأتراك صوتوا ضد اردوغان في انتخابات الرئاسة الأخيرة، أي أن ما يقارب نصف الشعب التركي يرفض الحكم الحالي.
دولياً، ستكون حكومة داوود اوغلو أمام تحد حقيقي بمواجهة ايران وروسيا وحلفائهما، فهل تضحي "تركيا الجديدة" بالإقتصاد وعلاقاتها الإقليمية والدولية في رهاناتها السورية؟ وهل تستطيع تركيا تحمل تبعات التدخل البري؟ وماذا إن اعتبرت دمشق تركيا دولة غازية؟ ...
تساؤلات لا تكاد تنتهي، والأجوبة رهن تطورات الأيام القادمة، والثابت هو أن الازمة السورية دخلت في مراحلها الأخيرة، مرحلة كشف جميع الأوراق قبل التفاوض، بعدما أيقن الجميع بإستثناء تركيا أن أي حلول في المنطقة، سوف تأخذ بعين الإعتبار مصالح دمشق بالدرجة الأولى.