24-11-2024 01:01 AM بتوقيت القدس المحتلة

"أزمة الإسلام والتسرطن الجهادي" ..!

يبيد التنظيم «الداعشي/ الجهادي» الجماعات والحضارات ويعدنا بعصر من التقهقر ويرمي إلى إبادة كل ما هو مختلف عنه ويعمل على محو التعددية في الإسلام. الأخطر أنه يضع المسلمين في حروب مذهبية جديدة

نشر برنارد لويس العام 2003 «الإسلام في أزمة حرب مقدسة وإرهاب غير مقدس»، ونقل الكتاب إلى العربية الباحث والمترجم المصري أحمد هيكل عن «المجلس الأعلى للثقافة» في القاهرة مع تغيير في العنوان: «الإسلام وأزمة العصر حرب مقدسة وإرهاب غير مقدس». وقد حاول فيه بطريرك الاستشراق الذي يُعرف بأنه من أبرز منظري المحافظين الجدد ومن داعمي الكيان الصهيوني، القول إن ثمة أزمة في الإسلام نفسه، علماً أنه من بين المعادين للعرب والمسلمين من دون نفي أن له دراسات جادة، لا سيما في الحقبة العثمانية.

ريتا فرج/ جريدة السفير

برنارد لويس لا يأتي استحضار لويس في إطار تأييد ما جاء في كتابه الذي عرف نقاشاً واسعاً في العالم العربي، إنما كمحاولة لمقاربة العنوان من الواقع العربي الإسلامي الراهن، بعد دخول الفاعل الجهادي العنفي على خط الأزمات البنيوية والتاريخية للإسلام والمسلمين.

وقد حاول باحثون عدة بعد سيطرة «داعش» على أجزاء من الأراضي العراقية والسورية، مع إمكانات التمدد إلى مناطق أخرى، فهم الأبعاد الإقليمية والسياسية والدينية العامة التي أنتجت هذا التنظيم الإرهابي الذي يسجل له مستوى من العنف غير المسبوق في التاريخ.

ما يدفع إلى القول، وهنا العبارة للشاعر أدونيس: «ينبغي أن نترحَّم على جنكيز خان وهولاكو وبقيّة الطغاة قبلهما وبعدهما. كانوا على بدائيتهم ووحشيتهم أكثر إنسانية وأصدق إسلاماً من الطّغاة الجدد في القرن الحادي والعشرين. إنّ ما يحدث هو أفظع ما لحق بالإسلام في تاريخه كلّه. أيها المسلمون، كيف لا تصرخون ضدّ هذا الامتهان؟».

لا يتحمل الإسلام القرآني كنص مقدس مفتوح على التأويل العنفيات المرتكبة باسمه. فكما أوضح الباحث الفرنسي أوليفيه روا: «يقول القرآن ما يدَّعي المسلمون أنه يقوله». ثمة أزمة تاريخية في الوعي الإسلامي أنتجها العقل الفقهي النصوصي الطغياني، حيث تمادى في طغيانه على حساب الإسلام العقلاني التعددي، فانبعثت الأصوليات والسلفيات والجهاديات.

تحت رماد «العنف الداعشي» مع ما يحتويه من توظيف سياسي في لعبة المتاهات الإقليمية الآيلة برهاناتها إلى إضفاء خراب على خراب، عوامل وأسباب أعطت حيزاً لهذا التسرطن الجهادي العابر للحدود، تتقدمها القطيعة مع الاجتهاد وسد المنافذ أمام قراءة النص القرآني بعين الحداثة وليس بعيون الماضي الحاضر بيننا. الإصلاح الديني الذي عمل عليه وطالب به كثيرون من المفكرين المسلمين، لا بد أن يأتي بمعية رجال الدين المتنورين والمؤسسات الإسلامية الكبرى والعلماء، تحديداً في ما يخص آيات الجهاد والعلاقة مع الآخر.

هناك مخزون في التراث الفقهي الجهادي يتطلب قراءات تأويلية هادئة تُعيد إنتاج المفاهيم وإجراء نوعٍ من القطيعة المعرفية مع الخلاصات التي تحض على العنف، لإرساء لاهوت إسلامي تنويري منفتح على العالم وعلى علوم العصر، علماً أن العنف في المدى الطويل قد يؤدي إلى صدمة وعي تتيح إجراء انقلاب تصحيحي على الذهنية الإقصائية/ التكفيرية التي تدمر الإسلام من الداخل، والتي تستند في الغالب إلى فقه الفرق الناجية، حيث طغى علم البدع (Hérésiographie) القائم على تقديم المذاهب المخالفة لإدانتها، وليس للفهم والمعرفة.

يحتل إصلاح التعليم الديني أهمية كبرى. هذا الاصلاح ليس ترفاً ثقافياً، بل أصبح اليوم وبفعل التشظيات والانفجارات العنفية ضرورة ملحة في المجتمعات العربية، بما يكرسه من رؤى جديدة للإسلام التسالمي ويسمح بتوطيد فقه التسامح والغفران لدى الأجيال ويقصي فقه التنابذ بين السُنّة والشيعة، والذي يعتبر مكوِّناً من الأزمة التي مر ويمر بها الإسلام. لقد تخطت القبلية السُنيِّة الشيعية كل معايير إدمان العنف والكراهية، وتُنذر بـ«صليبيات جديدة» على حد تعبير خليل أحمد خليل. تستدعي هذه الكراهية اليوم، وبشكل غير مسبوق، الإرث التاريخي المخزون في النصوص والنفوس، ما جعل الإسلام في حال من الانشطار التذريري، فيما المطلوب الاعتراف بالإسلام المتعدد والمتنوع والإقرار بحق الاختلاف والقراءات المختلفة للدين.

إن انفجار المجتمع جزء من انفجار الدين؛ كلاهما مأزومان. ليس بالإمكان الفصل بين أزمات المجتمعات العربية والأزمات الدورية للدين والأنظمة السياسية أيضاً. لكن إلى ماذا سيؤدي هذا العنف الجهادي/ التكفيري؟ إلى جانب الدمار الحضاري والمجتمعي سينتج ثلاثة مسارات: الأول، تمادي الطفرة العنفية في الاجتماع والسياسة والدين؛ الثاني، وقوع حالات من الإلحاد الفردية والجماعية الضمنية نتيجة الإكراهات التي لا تتحملها عقول بعض المسلمين بالتوازي مع الانغلاق الديني وارتفاع خطاب التشدد؛ والثالث، إعادة تشكيل الإسلام وإنهاضه بالعقل والإصلاح الجذري بفعل الصدامات القوية التي تلقاها نتيجة الممانعة المتعاقبة للحداثة، ما يسمح بإعادة تكوين العلاقات بين بناه الداخلية وبينه وبين العالم.

في كتابه «تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط»، أشار الباحث المصري الراحل نزيه الأيوبي إلى اطراد وتفاقم «الانسدادات في الدول العربية حتى عطلت كلَّ وظائفها فضلاً عن أدوارها على مستوى الأمة، ولا أمل بالتغيير، إنما هناك بعض الجماعات الإسلامية العنيفة التي تمارس وستُمارس تمردات مسلحة، تخمدها الأنظمة برعاية الولايات المتحدة». على أهمية هذه الخلاصة، لا بد من القول إن الأنظمة العربية بترت الإصلاح السياسي والديني ولم تعمل على تدشين التمدين المجتمعي الذي يتطلب تثقيف الجماعات الدينية بالعلم. كما أن غياب العدالة الاجتماعية ووجود الظلم الإنساني والقمع السياسي، أمور تدفع إلى شعور عام بالمظلومية، فيعود الفرد والجماعات إلى الطائفة والمذهب والقبيلة؛ «فليس وعي البشر هو الذي يحدد وضعهم، بل العكس، إن وضعهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم» كما قال كارل ماركس. إن توطيد الديموقراطية، لا سيما ديموقراطية تبادل الأفكار ونقدها تسمح بفهم هادئ للتاريخ الجاري الصراع عليه بين السُنّة والشيعة، ويساهم في تجاوز المطبات المذهبية التي تنخر في جسد الإسلام والمسلمين.

http://www.assafir.com/Article/18/376591ثمة عمق ثقافي للعنف في المجتمعات العربية يدعمه عنف ديني؛ عنف كامن مرده في الدرجة الأولى الأمية الثقافية الدينية لدى عدد من المسلمين. ليس من السهل القول إن «داعش» وأخواتها هي منَّا وفينا وأن لها حواضنها وبيئاتها، وإن بدت للبعض قليلة الانتشار في موازة الجماعة الأكبر من المسلمين التي تريد العيش تحت لواء دولة الحداثة ولا تريد التصادم مع المكوِّنات الدينية الأخرى.

يبيد التنظيم «الداعشي/ الجهادي» الجماعات والحضارات ويعدنا بعصر من التقهقر ويرمي إلى إبادة كل ما هو مختلف عنه ويعمل على محو التعددية في الإسلام. الأخطر أنه يضع المسلمين في حروب مذهبية جديدة بسبب التوظيفات الهائلة، سياسياً ودينياً؛ توظيفات تسعى إلى إدارة الصراع وليس تقديم الحلول الناجعة للخروج منه.

لا يجب إنكار أن فنون القتل والتعذيب التي يستخدمها «داعش» ليست جديدة على تاريخ العنفيات في الديانات والسياسات والاستعماريات. قطع الرؤوس ليس حدثاً عنفياً جديداً، غير أن عقولنا لا تتحمله نحن أبناء هذا القرن. يعادل قطع الرأس في رمزيته قطع رأس السلطة ويرمز إلى عدم الخوف من أي رادع أخلاقي وديني واجتماعي.

ليس الإسلام استثناءً عن المسيحية التي عرفت انتصاراً للعقل بعد حروب دامية. هو يحتاج إلى ورشة إصلاح طويلة للخروج من أزمته وإلى تخطي ركيزة تفوق الماضي على الحاضر وتأسيس لاهوت إسلامي عقلاني يؤمن بالتقدم والعقل والفلسفة والإنجازات العلمية الهائلة، ما يساعد تالياً على ترشيد السياسات وتوعية الجمهور وعقلنة وعيه الديني.

لقد زعم عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر أن التقدم الذي حققه الغرب مرده الذهنية الجماعية الأوروبية التي توفر مستوى عقلانياً أرفع تجعله منيعاً أمام مفهوم الحتمية. لا نرى أن هذا الكلام صائب، وإن وجد له شواهد بسبب الانسداد التاريخي، فهو يتناقض مع المعارك العقلانية التي خاضها العديد من المفكرين المتنورين ودفعوا ثمنها وما زالوا. يشهد التاريح على تجارب كثيرة في هذا الإطار، أما عقلنة الإسلام وإصلاحه، فقد بقيت أسيرة النخب ولن تكتمل إلاّ بالشرط الاجتماعي والسياسي التحديثي المتوائم مع العالم.