22-11-2024 02:05 AM بتوقيت القدس المحتلة

المغترب بين مطرقة الأنين والحنين يموت في كل يوم مرتين ..!

المغترب بين مطرقة الأنين والحنين يموت في كل يوم مرتين ..!

هم مغتربون عن الوطن لكنهم يحملون الوطن بين الضلوع، يقتلهم الأنين وتذوب ثلوج قلوبهم على حدود وطن الياسمين.

هم مغتربون عن الوطن لكنهم يحملون الوطن بين الضلوع، يقتلهم الأنين وتذوب ثلوج قلوبهم على حدود وطن الياسمين. كلمة مغترب لم تعد تعكس في زمننا هذا سوى صورة خيالية في ذهن كل مواطن بقي داخل ربوع وطنه ولكن الحقيقة مختلفة تماماً عن الواقع المرّ الذي يعيشه كل مغترب فهو محسود على كل شيء حتى على الدمعة الغافية في حضن عيونه.

دنيز نجم / خاص- موقع المنار

المغترب بين مطرقة الأنين و الحنين يموت في كل يوم مرتين ..!كل مغترب ترك روحه قبل السفر تجول في ربوع الوطن بين الحارات الشعبية القديمة وجدران المنازل ولملم ذكرياته وحملها في حقيبته ورحل بجسده عن وطن ما يزال يعيش فيه.

يتألم ولا يتكلم ينام على سرير من الشوك ولا يشكو يبتسم وقلبه يبكي يشقى ويتعب من أجل لقمة العيش الكريم ولا يقبل الذل على نفسه لأنه وإن حمل جنسية البلد التي يعيش فيها سيبقى إنتماؤه الأول والأخير لوطنه الأم الذي يخطف نبض قلبه.

لا شيء يشبه الموت كالبعد عن الوطن لأنه هو الحياة بكل معانيها. فنموذج الحياة في الخارج يختلف تماماً عن نموذج الحياة في حضن الوطن. فالحياة الإجتماعية التي نعيشها في وطننا نفتقدها في الخارج لأنها حياة عملية شبه خالية من العلاقات الإجتماعية مقارنة مع الحياة في الداخل، لأن نظام الحياة و العمل في الخارج يفرض على كل مغترب أن يعتمد على نفسه في بناء مستقبله فنصفه الأول ملك للدولة و نصفه الآخر ملك للعمل وما تبقى منه ملك له ولعائلته والمحيطين به من حوله.

يضطر المغترب في بداية مراحل اغترابه أن يلتحق بمدرسة ليتعلم لغة البلد التي يعيش فيها كي يبدأ حياته العملية أو الدراسية فيترك منزله باكراً و لا يعود إليه إلا بعد غروب الشمس. ويعود متعباً مرهقاً لا يفكر سوى بالغد و كيف سيبدأ تنظيم جدول أيام الإسبوع. وبعد أن ينتهي من مرحلة تعلم اللغة يبدأ بالمرحلة الثانية وهي البحث عن العمل أو تكملة دراسته بما يتناسب مع طموحه. وهنا سيدخل في دوامة الغربة اللامتناهية لأن أبواب المستقبل مفتوحة أمامه على مصراعيها ولكنها في الحقيقة ليست أبواب الجنة بل أبواب غربة مميتة بلون الحياة و أكبر من غربته تسرق منه أيامه وتتركه عالقاً في عالم الأحلام لا يطال أرضاً و لا سماء .

أبواب المستقبل بدايتها البنوك التي يبدأ التعامل معها لأنه تمنحه فرصة ليمتلك حسابا شخصيا خاصا به ومن بعدها تبدأ عروض ال ( Credit card ) أو ( Small loan ). وهذه عروض مالية مغرية يستفيد منها في بداية حياته في الخارج و لكنه الطعم الذي يجبره على البقاء في الخارج بشكل دائم إضافة إلى المميزات التي تمنحه إياها البلد التي يعيش فيها. فمثلاً توجد عدة دوائر حكومية تهتم بالمغترب و تشده للبقاء و تمنعه من الرحيل ومنها :

1- دائرة حكومية تسمى (  Employment Centre )  تهتم بمعيشة المواطن في حال فقد عمله لسبب ما وتعوضه بمبلغ مالي لمدة معينة حتى يجد عملا آخرا يستقر فيه. والتعويض المالي هو عبارة عن نسبة مالية تخصمها مسبقاً من معاشه الشهري و تعيدها إليه عند فقدانه لوظيفته.

2-لمن لا يجد عملا بسهولة فأيضاً هناك دائرة حكومية تعين العائلات على العيش الكريم بمبلغ شهري حتى تتحسن أحوالهم المادية و لكن ضمن شروط و تجبره المواطن على البحث عن عمل و تدعى ( The Welfare System ) .

3-دائرة حكومية يطلق عليها اسم ( Disability ) و هذه الدائرة مختصة برعاية كل مواطن لديه إعاقة سواء كانت مؤقتة أو دائمة تمنعه من العمل ولا يحصل المواطن على القبول إلا بعد أن يقدم الأدلة الطبية اللازمة التي تستوجب القبول.
4-دائرة حكومية تساعد العائلات أصحاب الدخل المحدود على تربية أطفالهم بمبلغ مالي شهري لتعينهم على تربية أطفالهم منذ ولادة الطفل حتى يبلغ عمر  18 عام و تخصص لكل طفل منحة مالية شهرية وهذه الدائرة يطلق عليها اسم ( Child Support ) .

هذه الدوائر الحكومية تهتم بالمواطن ليهنئ بالعيش الكريم وهي من أحد أسباب بقاء المواطن في الخارج لأنه يستفيد منها و لكن على قدر ما تقدمه الدولة من خدمات للمواطن فهي أيضاً تحكمه بموجب قوانينها التي تسبب له الضغوط النفسية الكبيرة. فمثلاً:

 1- هناك منظمة حكومية تدعى بالـ ( Children's Aid Society ) و هذه المنظمة مهمتها أن تحمي الطفل حتى من أهله إن لم يكونوا أهلاً لتربيته أو ليعالجوا المشاكل العائلية حتى يكون الطفل في وضع مستقر ينعم بالأمان. والدولة منحتهم بقوانينها سلطة عليا بإتخاذ القرار الأخير في خلع حضانة الطفل من أهله إن لم يكونوا أهلاً لتربيته ومعاملته بإنسانية. وهذه المنظمة تحبط المواطن العربي بشكل خاص لأنها تمنعه من ممارسة عاداته الشرقية في تربية أبناؤه الأخلاقية و الدينية في حال لاحظ أي شذوذ أخلاقي فهو ممنوع من استخدام أساليب العنف ( كالضرب أو الصوت العالي) لأنها تؤثر نفسياً على الطفل و انعكاسها على حياته في المستقبل غالباً ما يكون سلبياً. 

وهذا ما قد يترك أثره البعيد المدى في نشأة أبناء الجالية العربية لأنهم سيتطبعون بطبع الغرب وتختلط عليهم الأمور الأخلاقية والدينية ما بين (العيب و الحرام). ولكن هناك الكثير من العائلات التي تأقلمت مع هذا الوضع واستبدلت أسلوب العنف بأسلوب متحضر بالتفاهم و التقارب بالأفكار للحفاظ على الروابط الأسرية. لأن العنف يخلق عدم توازن في شخصية الطفل و يزرع بذور الكره في داخله. وأحياناً يكون العنف هو أحد دوافع الإنتقام عند الطفل حين يبلغ سن الرشد من مجتمعه المحيط به ليفرغ كتلة الغضب الكامنة في أعماقه من المعاملة الإستفزازية السلبية التي تلقاها في الصغر. فضربت على عصب العقل حتى استقرت في الباطن والعقل الباطني غالباً ما يحتفظ بالسلبيات أكثر من الإيجابيات والتي تكبر مع الطفل عبر السنين. أما أسلوب التفاهم بالعقل بأسلوب الفكر المتحضر غير متصعب أو متطرف فهو يخلق نوعاً ما رابطاً أسرياً أرقى للتعامل بمخاطبة الفكر و المنطق وأما من ناحية العادات والتقاليد فالطفل يتشربها منذ حداثة سنه بأسلوب المعاملة الحسنة دون تعصب أو تطرف .

2- الدولة تساعد البالغين الراشدين بدراستهم وتقدم لهم منحة مالية لأن التعليم في الخارج ليس مجانياً كما في الوطن .
هذا ما يعانيه المغترب في الخارج و بشكل خاص في كندا و أميركا من الناحية الإجتماعية. أما من الناحية الإقتصادية فكلما حقق حلماً يطمح للآخر. ونجاحه بعمله يعتمد على المال و هذا طبعاً سيكون عن طريق البنك الذي يفرض عليه الدين بالفائدة. فالضرائب هي من تسرق راحة بال المغترب. فكلما طور نفسه و زاد نجاحه تستنفزه الدولة بالضرائب. فعلى سبيل المثال عندما يقوم أي مواطن بشراء منزل فهناك ضريبة مجبراً على دفعها قبل أن يستلم منزله. وهذا عدا مخالفات السير أيضاً و غيرها .

إذا،ً هنا نستنتج بالمختصر المفيد أن المغترب لا يجد المال في الشوارع ولا يحصل عليه بسهولة وإن امتلك مئة دولار في جيبه فهو سيدفع منها ضرائب. لأن الضرائب مفروضة على أي مواطن في الخارج حتى على الأكل والشرب. وفوق هذه الضغوط النفسية يأتي الحنين للوطن ليسرق كل ابتساماته و لا يترك له إلا غصة تختنق في حنجرته و دمعة تسكن في مقلتيه. و بين الحين و الآخر يفتح حقيبة الذكريات ليتنشق منها رائحة الوطن ويشحن قلبه بنبضة تنعشه ليعود للحياة مجدداً بعد أن يكون قد تحول لمجرد آلة كهربائية مبرمجة تعمل بانتظام دون توقف .

الوطن هو نقطة ضعف كل مغترب و نقطة قوته في الوقت ذاته لأن الحنين يذيب شمعات عمره و الأنين يخطف فرحة قلبه ولا يوجد سوى الوطن ليعيده للحياة كلما فقد نبضة قلبه .

حال المغترب يشبه إلى حد كبير الطير المذبوح الذي يرقص من الألم و لا أحد يدري بأنه مذبوح فالغالبية يجهلون الكثير عن حياة المغترب في الخارج. ويعتقدون أنه يعيش حياة مترفة و لا يرون منها سوى الغلاف الخارجي فقط بأنه يعيش حريته كما يحلو له لأنه يكتم عنهم عذابه و يخفي آلامه كي لا يحملهم ما فوق طاقتهم. ولا يعرفون بأن المواطن العربي في الخارج يعيش بين أبناء جاليته ليحظى بدفء محبتهم النابعة من قلوبهم الطيبة والملتاعة من مرارة الغربة.

وغربة الأوطان تجمعهم ويحتفظ المغترب بما تشربه في الصغر من عادات و تقاليد ويحافظ عليها لأنها الركائز الأساسية التي تحافظ على عراقة جذوره بينما البعض من المواطنين في الداخل يحاولون تقليد الغرب بحريتهم و يدفنون عاداتهم و تقاليدهم ليتخلصوا منها لأنها أصبحت في نظرهم (موضة قديمة). والإحتفاظ بالعادات والتقاليد دون تطرف أو عقد هو واجب ديني وأخلاقي فمن ليس له ماضٍ ليس له حاضر. ومن يتنكر لجذوره فهو سيبقى كالريشة في الهواء و ستسحبه الريح بدوامتها ليبقى معلقاً لا يطال السماء و لن يطال الأرض .

لا تحكموا على المغترب من نظرة خارجية و لا تخنقوه و تزيدون من جروحه بل احضنوا ألمه و احضنوا الأيام القادمة معه. فالمظاهر هي مجرد غلاف خارجي. أما الباطن فهو المعدن الثمين و الإنسان بمعدنه وليس بمظهره وتعمقوا بشخصية الإنسان وليس بشكله عندما تصدروا أحكامكم، فربما تجدون فيه نسخة من ماضيكم يعيش بحاضركم و لكن بفكر راقٍ متحضر يمد يده لكم بالحب وليس بالمال. فالمال يزول والحب يبقى ويصنع المعجزات و نحن بأمس الحاجة لمعجزة تنقذنا من الغرق في ( الأنا ) و تنشلنا بال ( نحن )..

اشبكوا الأيادي يا أبناء الوطن الواحد مع كل مغترب فمعكم و بكم يكون غداً أجمل و نصرأ أكبر نبني معاً وطن يتجدد بفكر متحضر يحافظ على عراقة الماضي بجذوره المتأصلة فينا و المغترب مهما طالت غربته فحبال الحنين ستشده لوطنه الأم كي يعود إليه حتى و لو بعد مرور سنين. فكل مغترب منا مصيره أن يعود لوطنه الأم  إما ليحيا تحت سمائه أو ليدفن بترابه الحنون الذي سيحضن ما بقي منه في بلاد المهجر.